كتب محمود بري | حرب ناعمة بين أحلاف الغرب والشرق
محمود بري | كاتب وباحث لبناني
كانت الأزمة الأوكرينية مناسبة عملانية لموجة مستجدة من الاستقطاب الدولي، ووسيلة لتظهير انقسام العالم بين حلفين متعارضين كانا في حالة شبه سُبات: حلف شمال الأطلسي (الناتو) من جهة، وتحالف “بريكس” في المقابل.
الحرب حتى…آخر أوكريني
بالتوازي مع اشتداد المواجهات واتساع شُعاع الحرب وتأثيراتها على اقتصادات العالم، والغرب الأوروبي من باب أولى، اكتشفت القارة العجوز أن ثمة من كان قصير النظر في اعتقاده أنه سوف يكسر ظهر القيصر الروسي اقتصادياً ويجبره على الركوع على ركبتيه وطلب الغفران…، كذلك اكتشفت روسيا من جهتها أن ما كانت تعرفه عمّا هي مقبلة عليه، لم يكن أكثر من الرأس الصغير المدبب لكتلة جليد هائلة. وتواصلت اللعبة الجهنمية من مختلف الجهات: الجيوش الروسية تتقدم داخل أوكرينيا ببطء يُقال إنه مدروس، وتستغرق في مواجهة حامية تدور بالوكالة مع الغرب برمّته، بما هو حلف “الناتو” أولاً والقوى العسكرية لمختلف الدول الأوروبية، إضافة إلى القوة العسكرية الأميركية ذاتها، حيث يتصدّى الغرب باستخباراته وسلاحه وخبراته وأمواله ومرتزقته لـ “الغزو الروسي”، ويُبدي الاستعداد لمواصلة هذه الحرب… حتى آخر أوكريني.
“البريكس” و”الناتو”
المرحلة التالية من هذه المواجهة البديلة عن حرب عالمية ثالثة (من دون جنون نووي حتى الآن)، انطلقت على مستوى سياسي “مسالم” بالعمل على توسيع الأحلاف القائمة لدى كلٍ من الجانبين، الناتو والبريكس. وكما دائماً، فالمبادرة انطلقت من الغرب، ومن بريطانيا بالذات، التي وكالعادة، دفعت بالولايات المتحدة إلى الواجهة.
هكذا طفت على السطح عملية توسيع وتقوية الناتو باستقطاب كلٍ من السويد وفنلندا للانضمام إليه، وهما جارتان لصيقتان لروسيا التي لم تسكت أساساً على التلويح بانضمام أوكرينيا للحلف الغربي، ما يعني أنها لن تغامر بالسكوت على انضمام الدولتين الجديدتين إليه.
كان من الملاحظ مع شيء من الارتياح العالمي، أن موسكو التي لم تقف (ومعها بيجين) مكتوفتا الأيدي في مواجهة هذا التطور، اختارتا اعتماد وسيلة “سلمية” ً للمواجهة، أرادتاها على المستوى السياسي لا العسكري، فانخرطتا في مواجهة عملية توسيع الناتو بالعمل على توسيع البريكس… الذي يضم إلى روسيا والصين، كلاً من البرازيل والهند وجنوب أفريقيا. كذلك وفي سبيل تعزيز كفاءة هذا التحالف، باشرت قيادات البريكس عملية تفاوضٍ إضافية مع منظمة شنغهاي للتعاون “SCO”.
الجدير بالذكر ان هذه المنظمة كانت تأسست في مدينة شنغهاي الصينية العام 2001 من قبل عدة دول هي: الصين، روسيا، كازاخستان، قيرغيزستان، طاجيكستان، وأوزبكستان، ثم انضمت إليها الهند وإيران. المعنى أن التنسيق والتعاون بين مجموعتي “بريكس” و”شنغهاي” يُعتبر من قبيل “التحصيل الحاصل” بالنظر إلى الدور الفاعل الذي تلعبه الصين وروسيا في المجموعتين. وعلى الرغم من قول” ماثيو نيبول” الخبير في الشؤون الدولية في معهد “ماكدونالد- لورييه” في كندا، إنه “من الصعب تحقيق هذا التقارب”، إلا أنه مضي بعيداً في توصيف ما يمكن أن ينتج عن التعاون بين المنظمتين، إن حصل، ودوره في “إعادة تشكيل النظام العالمي على غير ما هو الآن”. وهذا في الواقع سيرفع قدرات الحلف على مختلف الأصعدة، ويتيح له تحقيق نوعٍ من الكيانية العالمية خارج إطار التحالف الغربي، ما سوف يغيّر وجه العالم بالتدريج.
على مستوى توسيع تحالف بريكس، كشف موقع “نيوزويك” عن مساعي تبذلها موسكو وبيجين لتحقيق نوع من “التوازن الجيوسياسي” العالمي في سبيل فرض نموذج تعدد القطبية، من خلال استقطاب الرياض وطهران لمجموعة بريكس، في سبيل تعزيز هذه المجموعة في مواجهة نظيرتها الغربية. وخلال عقد قمة بريكس في مدينة شيامين الصينية في العام 2017، جرى طرح خطة “بريكس بلس BRICS plus” التوسعية، في سبيل إضافة دول جديدة إلى المجموعة. وبالفعل فقد أعلنت وزارة الخارجية الإيرانية أن طهران تقدمت بطلب عضوية في “بريكس”، كما أعرب الرئيس الأرجنتيني “ألبرتو فرنانديز” عن نية بلاده الانضمام للمجموعة، فيما تحدثت مصادر مختلفة عن نية تركيا والسعودية والمكسيك الالتحاق بالمجموعة أيضاً.
الأوراق الرابحة
لكن… هل من جدوى مكافئة بالفعل لهذا النشاط المحموم من جانب قيادات البريكس، لتوسيع الحلف واستقطاب مجموعة شنغهاي؟
الواقع أن تحالف بريكس الذي ظهر في العام 2006 جامعاً الدول الخمس: روسيا والصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا التي انضمت في ما بعد إليه، كان في طليعة أهدافه التحرر من هيمنة القطب الواحد. ولقد تجاوز مجموع اقتصاداته ما تحوزه السبع الكبرى (الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا واليابان وفرنسا وكندا وإيطاليا)، فيما يمثل أعضاؤه 45% من سكان العالم، وتغطي دوله الخمس 27% من مساحة الكرة الأرضية، برقعة جغرافية تتجاوز 39 مليون كيلومتر مربع.
والحال فهذه المقومات التنافسية تبدو متواضعة لمضاهاة حلف الناتو. إنما في حال قُيّض انضمام منظمة “شنغهاي” فسوف يتحصّل للتحالف الجديد ثقل دولي غير مسبوق (نحو 60% من مساحة أوراسيا، و حوالى 50% من عدد سكان العالم)، ما يؤهله لمنافسة الناتو والاتحاد الأوروبي بكفاءة.
لكن هذا كلّه لا يمثلّ سوى الجانب المُضاء عليه فقط من الصورة الأشد تعقيداً مما تبدو عليه. لذا يتحتم كشف بقية “الأوراق الرابحة”، والأهم منها جاء على المستوى الاقتصادي.
في السبيل إلى التحرر من هيمنة المؤسسات العالمية الغربية، أنشأت دول البريكس بديلاً فاعلاً عن نظام ” swift ــ سويفت” المصرفي العالمي (جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك) ، أسمته نظام “سيبس ــ CIPS ” الذي كانت أقامته الصين كبديل عن سويفت. وكانت هذه “ضربة معلم” لا سيما إن علمنا أن االنظام القائم على التعامل بالعملة الصينية، استقطب حتى اليوم 102 دولة (من بينها دول أوروبية)، و1280 مؤسسة من مختلف أنحاء العالم. وثمة أيضاً نظام روسي مشابه هو “إس بي إف إس” ، يجري التعامل فيه بالروبل. وتطالب الهند حالياً بالانضمام إلى هذين النظامين كليهما، باليوان وبالروبل. فضلاً عن هذا وإضافة إليه، تعمل دول بريكس حالياً على التحضير لإصدار عملة جديدة يجري التعامل بها بين جميع دول التحالف، تكون بديلاً عن الدولار.
وفوق ذلك أقام التحالف بدائل لشركات “فيزا” و”ماستر كارد” الغربيتين. الصين أطلقت نظام “يونيون باي” القابل للاستخدام على “الإنترنت” والصرّافات الآلية، إنما مع رسوم أقل من تلك التي تفرضها فيزا وماستر كارد على التعامل بواسطتها. وثمة اليوم أكثر من مليار ونصف مليار بطاقة عاملة بموجب هذا النظام، يعني أكتر من عدد بطاقات فيزا وماستر كارد العاملة. كذلك أقامت البريكس بنكاً دولياً بديلاً عن البنك الدولي الحالي (الذي أقامه الغرب)، هو “بنك التنمية الجديد”، يقدم القروض للدول التي تحتاجها بعملاتها الوطنية وليس بالعملة الصينية ولا بالروسية وليس طبعاً بالدولار. وهذه ضربة أخرى قاسية ترى إلى القضاء على الدولرة في ميادين التعامل المالي العالمي. وينبغي لفت الاهتمام إلى أن اعتماد هذه السُبل “البريكسية” تُفضي إلى إستحالة أن تكشف أميركا أو سواها في الغرب وجهة ومقدار التعاملات المالية لكل واحدة من دول البريكس.
ولا يبقى لدول هذه المجموعة سوى إنشاء بورصة للتعامل المالي، يتم التعامل فيها بالعملات الوطنية وليس بأي عملة عالمية إجبارية بعينها (كالدولار مثلاً)… وهو ما أنشأته البريكس بالفعل وبات حقيقة وواقعاً.
هذا كلّه لا يعني أن هذا التجمع “الشرقي” بات موازياً لما هو قائم في الغرب، أو أنه في سبيله إلى أن يحلّ محلّه في غضون أشهر أو سنوات… فهذا يرتهن لظروف ليس مجالها الآن. لكن ما جرت الإضاءة عليه يمكن أن يكون كافيا لتوضيح الأسباب الخفية للمواقف والإجراءات الأميركية المتشددة بشكل شبه جنوني ضد روسيا والصين، من أوكرينيا إلى تايوان، مروراً بالتهويل النووي من على شرفة مفاعل “زابورجيا” النووي، وهو الأكبر والأضخم من نوعه في أوكرينيا وأوروبا كلّها.
ولا بأس في استبدال حرب عالمية مُرعبة بحرب ناعمة بين أحلاف على كلا الجانبين.
وهنا يستعيد القول السائر عصريته: إذا أردت أن تعرف ماذا يدور بين روسيا ومعها الصين من جهة، والولايات المتحدة والغرب من الجهة المقابلة، فعليك أن تعرف المخاوف الغربية الناجمة عمّا تفعله موسكو وبيجين في الاقتصاد وفي السياسة؟