محود بري | كاتب وباحث لبناني
ثمّة قدر من السذاجة بالقول إن الأزمة الأوكرانية أعادت إحياء هواجس الغرب تجاه التحالف الصيني الروسي. فهذا التوجس قائم منذ عقود ولا يحتاج إلى جرعة تذكير. والتقارب بين موسكو وبكين لم يكن ينتظر الأزمة الأوكرينية ليظهر ويتأكد، بل يصحّ أكثر القول إنه لو لم يكن هذا التقارب قائماً ومتيناً، لما أقدم “فلاديمير بوتين” على مدّ يده إلى عنق الجارة التي تحاول كسر مزراب العين. إلا أن السياسة الأميركية تلعب عادة في ملعب آخر. فهي تتصرف وكأن ما يُخالف مصالحها غير قائم أساساً، وتعمل على البناء على هذا الواقع الافتراضي. إلا أن هذه الطريقة لم تعمل مع الصين على ما بيّنت الوقائع. فبعد أن وجّه “جيك سوليفان”، مستشار الأمن القومي الأميركي، تحذيرات واضحة وفجّة لكبير مسؤولي الشؤون الخارجية في الحزب الشيوعي الصيني، “يانغ جيه تشي” لدى لقائهما في روما، مُتحدثاً عن “عقوبات وخيمة” ستستهدف بيجين في حال مدّها يد المساعدة لموسكو، جاء الرد من وزير الخارجية الصيني “وانغ يي” فوصف العلاقات بين الصين وروسيا بأنها “راسخة ومتينة كالصخر”، في كلمة ألقاها أمام الاجتماع السنوي للبرلمان الصيني. ولا يغيب عن البال أن هذا التوصيف الواضح أتى أيضاً وأساساً ليردّ على تحذيرات كان وجهها وزير الخارجية الأميركي لنظيره الصيني بقوله “إن العالم يراقب الدول التي تدافع عن مبادئ الحرية وتقرير المصير والسيادة”. ولقد جاءت الردود الصينية المتصاعدة كأنما لتعلن للعالم ولواشنطن من باب أولى، أن هذه اللغة التي تستخدمها الولايات المتحدة مع دول بالكاد تظهر على الخريطة، لن تكون مُجدية مع الصين. على وقع هذه المواجهات الكلامية المتزايدة كانت المكالمة الهاتفية بين الرئيسين الأميركي “جو بايدن” والصيني “شي جين بينغ”، حيث نقلت “رويترز” عن وسائل إعلام صينية رسمية قولها إن الرئيس الصيني أكد لمثيله الأميركي أن “النزاعات والمواجهات ليست في مصلحة أحد”… وأن “على بكين وواشنطن التعاون من أجل السلام العالمي”… والمعنى السياسي لهكذا كلام أن بيجين ترى أن ما جرى قد جرى، وأن على واشنطن ابتلاع “غضبها الصغير” لضمان “مصالحها الكبيرة”. ولجعل الموقف الصيني أكثر وضوحاً أعلنت بيجين بلسان وزارة خارجيتها أن “مفتاح حلّ الأزمة الأوكرينية هو في أيدي الولايات المتحدة والناتو…”، وأن على “المتسبّبين في نشوب الأزمة الأوكرانية، أن يفكّروا جيداً في دورهم فيها، ويتحمّلوا بجدّ مسؤولياتهم، ويتّخذوا خطوات عملية لتخفيف حدّة الوضع وحلّ المشكلة، بدلاً من إلقاء اللوم على الآخرين”. وهذا انتقاد سافر لمواقف الولايات المتحدة وأوروبا من العملية الروسية الخاصة في أوكرينيا، وتأكيد على موقف “بيجين” المعارض للسياسة الغربية في هذا الصدد. إنما لا ينبغي لهذا أن يكون مُستغرباً ولا أن يُفهم أنه تأييد صيني خالص لحركة موسكو في أوكرينيا. فبين الصين والولايات المتحدة “حساب جارٍ” قبل الأزمة الأوكرينية، على خلفية السياسة الأميركية الواضحة التي تعمل على “كبح انطلاقة الصين ووقف صعودها وتحجيم دورها كمنافس استراتيجي” وكشريك مضارب على قمة العالم، بخاصة بعد أن قفز دخلها القومي السنوي عن 20 تريليون دولار، وأصبحت المنافس الأول والوحيد للاقتصاد الأميركي، وهو الأكبر في العالم. لذا ليس من الرزانة تجاهل أن الصين (الهاجس الأول لدى صنَّاع القرار في واشنطن) ستكون المستفيد الأكبر من الضربة الروسية في أوكرانيا، باعتبارها على الأقل، تُشتت قدرة الولايات المتحدة الأميركية على التركيز على المواجهة معها. كذلك لا بد من الأخذ بنظر الاعتبار أن الصين اليوم هي الشريك التجاري الأول لروسيا، وأن بينهما اتفاقيات تعاون لا تُعدّ ولا تُحصى، ليست أهمها اتفاقية التعاون الاستراتيجي منذ العام 2014 بقيمة 800 مليار دولار، وأن الدولتين باتتا تتعاملان باليوان الصيني والروبل الروسي منذ ضمّ موسكو شبه جزيرة القرم في آذار/مارس العام 2014. غاية القول إن الأزمة الأوكرينية ساهمت بفعالية فى تسريع وتيرة التقارب بين موسكو وبكين، ورفعت من شأن روسيا فأكدت ما كانت ذهبت إليه الصحافية الأميركية “كاثي بويد” من أن “روسيا لن تجلس في آخر الحافلة بعد الآن”. وإن صحّ ذلك تكون أوكرينيا قد ذهبت “ضحية جديدة لأكاذيب الغرب والولايات المتحدة” كما قالت صحيفة “ذا هيل” الاميركية القريبة من أوساط الكونغرس. وفي ظل تعطش العالم االغربي إلى النفط والغاز الروسيين، فضلاً عن بقية احتياجاته الحيوية، فإن سحر العقوبات على روسيا يكون قد انقلب على الساحر. والولايات المتحدة التي تُضحّي بأوكرينيا على مذبح مواجهتها المستدامة مع روسيا، سمعت جيداً “سيرغي لافروف” يُعلن أن روسيا تخوض معركة حياة أو موت لا يمكن لها أن تخسرها. وهو ما سمعته الصين بالطبع، وهي الأدرى بان القارة العجوز التي تحارب واشنطن بها، إنما تقف أساساً على أرجل من ورق. النتيجة أن ثمة نظام عالمي جديد يجري بناؤه، ولو بالحديد والنار، وأن الصين ستكون الطرف الأساسي فيه، وهنا نقطة الارتكاز. أما واشنطن فهي تخوض بالآخرين آخر حروبها.