كتب محمود بري | الصندوق الأسود وخيمة النصّابين

محمود بري | كاتب وباحث لبناني

إنها خيمة النصابين. قائمة ومستمرة تحت مُسمّى “الدولة”.

هي في الواقع العملي منصة للنهب والتشبيح، باشر هؤلاء المتنفذون تفصيلها على قياس أطماعهم الوقحة، منذ فوزهم بقرار العفو (القاصر) حتى تمكنوا من اغتصاب مناصبهم “الدولاتية” بأسلحتهم وبزعرانهم. لم يكن ذلك سهلاً عليهم بالطبع في تلك الآونة، لكنهم  فرضوا سلطانهم بالبطش ومكعّبات الباطون، ثم راحوا يذرون في عيون الناس “كمشات” من شعاراتهم الكذّابة المُلبننة.

نعم… هم نصابون. ومُسمى “الدولة” هو منصتهم. يتسلحون به/ بها ويركبون ظهر الدستور والقوانين والناس. يلوّحون بـ “القضية” عالياً في وجوه “الجماهير” ويدهنونها حسب المطلوب: الفينيقية الأصلية، اللبنانية الفريدة، الإيمان والقداسة، ولا يتورعون كذلك عن استخدام يافطات أخرى من السوق… مما يمكن اعتماده كلأ لشعب من الماشية.  قضيّتهم كانت دائماً حمّالة أوجه، ولها حقيقة واحدة: السرقة والنهب وتكديس الحرام، بكل وقاحة.

على هذا الإيقاع  طعنوا وسرقوا، عقداً وعقدين وثلاثة وأربعة، ومضوا يصنعون القضاء والقدر حتى الأمس القريب… عندما انسحب الرئيس سعد الحريري بشكل فُجائي من المشهد. جاء ذلك مفاجأة مُدوِّية للجميع، لكنه كان ضربة قوية على رؤوسهم… وجيوبهم، أفقدتهم الأمان والتوازن. منهم من ابتلع لسانه وصمت كأي مومياء، ومنهم من طفش من ثقبه وعنجهيته وراح يتلوّى هلعاً وينفخ من حوله تهديدات مهرّج مرعوب، إلى أن تمكن سيد السحرة من “لملمته” عن الشاشات وإعادته إلى سلّة الكوبرا.

الظاهر أن الجماعة، أخيراً، وبفضل مرور الزمن، انتبهوا إلى “سر” الانسحاب الإذعاني للرئيس المتواري بعيداً خلف صمته، وفهم من يجب أن يفهم أن لا حرّية ولا قرار لـ “الأقنعة”. عندها داهمونا بفصل فولكلورهم الطوائفي الذميم، لعل فتنة ما تأتيهم من غامض علمه فتُعيد تعويمهم.

لكن المشكلة الحقيقية للسادة المنكوبين كانت في مكان آخر. لا، ليس في كرامتهم التي داستها اتهامات الناس وأهل البلد وقرف الدول الأجنبية وأمم البنك الدولي والعالم الحرّ…فهذا كلّه ليس جديداً عليهم. مشكلتهم كانت في اهتزاز أركان الخيمة…”خيمة النصب” إيّاها. فهم نسجوها خيطاً خيطاً منذ أن صاروا هم الدولة، واعتمدوها منصة متكاملة الأوصاف لممارسة السلب والنهب تحت حماية “دولاتية- قانونية” يضمنونها بمناصبهم. وهنا كل اهتمامهم. لذلك لم يهتموا هم ولا أربابهم الخارجيين بما يمكن أن ينجم عن قمع زعامة طائفة لبنانية بأكملها ومنعها عن لعب أي دور سياسي في البلد، وما يمكن أن يستجرّه ذلك على التركيبة اللبنانية بحدّ ذاتها وعلى الكيان برمته. فهذا لا يعنيهم لأنهم يُمنّون نفسهم بأن يكونوا هم البديل، فيتابعون معركتهم الكلامية ضد الحزب، ويتنافخون كما في يوم حليمة وأيام داحس والغبراء… في فضاء نزع السلاح الذي يُعيق الإرهاب الإسرائيلي. يهون عليهم  تدمير بلدنا بأكمله… وبمن وما فيه، حتى من أنصارهم ومؤيديهم، ولا يرف للتمساح جفن. فهم أساساً يكرهون فكرة أن يكون هناك دولة ونظام وقوانين مما دفنوه في البحر مع ضحاياهم… فكيان الدولة يتناقض مع مصالحهم بقدر ما يخالف بداوة حُماتهم ومُشغّليهم… أولئك الطُغاة المُؤبدون الذين يعيشون منذ أيام عاد وثمود داخل جلابيب وخيم من شعر البادية، ويتصرفون كما السحالي وإن بدت أشكالهم تشبه البشر. وكل المظاهر المختلفة التي نشاهدها لهم على الشاشات، ليست إلا من وهم الهولوغرام…مجرّد صور بأربعة أبعاد يجري تشكيلها بالضوء بحيث تبدو واقعية.

أما ظلم لبنان (عقدتهم التاريخية الكأداء) وجهدهم الحقود لوَأده وتدميره، وهو الشقيق العربي الأصغر، فهذا ليس ولا ينبغي أن يكون مُستهجناً أو موضع تعجّب…فقد “سبق لهم  النهش” في بلد آخر هو أوسع بلاد العرب مساحة وأعمقها تا ريخاً وأعرقها حضارة، حيث حاولوا ويحاولون وأده… وما انفكوا يعلكون أنيابهم.

لكن…

طالما أن الجماعة باتوا على الحافة…أمام الهاوية، فهم على أتم الاستعداد لأيّ ارتكاب يمكن أن يضمن لهم نجاتهم من ارتكاباتهم أولاً ثم بقاء خيمة النصب قائمة. يشعرون أن الزمن بات يسبقهم، ويستشعرون اهتزاز الأرض تحت سلطانهم. لذا فقد أعادوا نبش تاريخهم واستخرجوا فأس الدم والجريمة التي كانت دفنتها اتفاقات غنهاء الحرب… وها هم يستعيدون أسلحة الاغتيال السياسي ويشحذونها في العتمة للتخلص من كوابيسهم.

المهدَدون بشكل أساسي: الصندوق الأسود الذي يستبطن أسرار نهبهم وجريمتهم المتمادية… ومعه كل من من يحاول فتح هذا الصندوق وكشف خباياه.

هكذا يقرأ العرّافون غد هذا البلد المنكوب.

 

Exit mobile version