محمود بري | كاتب وباحث لبناني
تدور الأيام والأسابيع والأمور عالقة في النقطة التي توقفت عندها =في اللقاء الاخير بين الرئيسين عون وميقاتي. لا شيء واضحاً أو مُطمئناً بخصوص الملف الحكومي الذي يتراجع الحديث عنه ليطغى الاهتمام بأحاديث ومناورات تتصل بما يسمونه “الاستحقاق الرئاسي” حيث تُهيمن روائحه على مختلف الصالونات السياسية والروحية، على الرغم من انسداد هذا الأفق…
الأطراف الذين تقاسموا البلد يرون إلى هذا الاستحقاق من زاوية مصيريته بالنسبة لكل واحد منهم، فيمضون في دأبهم ويشغلون مستشاريهم وأنفسهم (ومشغّليهم) بتفصيل رئيس يتناسب بمواصفاته مع متطلبات كل منهم، ويستعجلون أول أيلول الذي سيكون مستهل مهلة الستين يوماً التي ينبغي خلالها إجراء الانتخاب وتظهير الرئيس العتيد للجمهورية التي… ربما لن يتم العثور يومئذٍ على أكثر من فُتاتها.
وعلى الرغم من أن أيّ رئيس للجمهورية اللبنانية، منذ ولادتها، لم يكن إلا صناعة خارجية بتلاوين محلية شكلية في أحسن الأحوال، إلا المنهمكين المحليين في ما يعتبرونه المطبخ الرئاسي، يتناوبون على تأدية دور الفارس البهلول “سرفانتس” في محاربة طواحين الهواء، في سياق لعبتهم الدونكيشوتية الخالية من طرافة “دونكيشوت”، وهم أول من يعلم الموقف الحقيقي للمُخرجين الأجانب من كلٍ واحد منهم.
غني عن البيان ما وفّره الخارج (المجتمع الدولي) من فُرص ذهبية أمام هذه الجمهورية المنكوبة لإنقاذها من أزماتها ــ حٌكّامها، وما أتاحه لها من فُرص دعم مُغرية على مختلف المستويات الاقتصادية والمالية وسواها. إلا أن هذا كلّه، وكما هو معروف، لم يكن مُجدياً لإقناع المتسلطين بالتخفيف من غلوائهم، حتى أنهم اضطروا الرئيس الفرنسي نفسه إلى توبيخهم بفضاضة غير مسبوقة خلال جمعه لهم في قصر الصنوبر، ومواصلته عملية التوبيخ على ألسنة مسؤولي إدارته الذين زاروا ويزورون بيروت بمهمات إنقاذية رسمية، ذهبت حتى اليوم من دون أيّ جدوى. والنتيجة الأهم والأبرز لهذه المهام لم تكن حتى تاريخه أكثر من توصيفات قاسية لهؤلاء المتنفذين وانتقادات مريرة يُقذف بها “المسؤولون” المحليون مما لا يترك أي تأثير في مسلك هؤلاء السياسيين النياندرتاليين القابضين على عنق البلد، وقد رهنوه وأهله لحساباتهم الأنانية وأطماعهم التي لا تشبع. وفي كل مناسبة مُتاحة يُطلقون عليه ما يسمّونه “أحزابهم السياسية” تنهش ما بقي فيه من لحم حيّ، على مستويات الحاجات الحياتية اليومية من خبز ومولدات ومحروقات ودولار وأسعار، متوسلين شعارات بائدة دأبت الشعوب السامية قديماً على استثمارها منذ “علّاقة” الذي أصاب عِزّاً بعد فاقة، قبل أن ينتهي جثة مصلوبة على خشبة نخِرة فوق بوّابة المدينة ــ المملكة التي استباحها ونكّل بها وتحكّم برقاب أهلها حتى ظنّوا أنه القدر الذي لا مردّ له.
يقول الراوي إن الوضع في هذا البلد الطافي على دمائه، سيبقى على انحداره وانكساراته إلى أن يظهر في بعبدا الرئيس الجديد ويجلس على كرسي الجمهورية… لكنه كلامٌ أشبه بصمت الحُملان. ولئن كان هذا الأسلوب الكلامي صالحاً لطمأنة أيّ غريق يبحث عن قشّة يتمسّك بها، إنما، وبصرف النظر عن احتمال بقاء أو تبخّر الجمهورية بحد ذاتها حتى يحين أوان أيلول، فإن وصول الرئيس، أيّ رئيس، هذا إذا جرى الاستحقاق كما يظن ضحايا أحلام اليقظ، فإن الحل لن يكون جاهزاً في ورقة مطوية بعناية في جيبه… ولن يكون هناك أيّ أمل في وضع نقطة النهاية لهذا الإنهيار العظيم االمتواصل. فحتى لو جيء بنابوليون وهرقل وآينشتاين وجحا في تركيبة بشرية واحدة، ليكون هو رئيس الجمهورية العتيد الذي ينتظره الباحثون عن الإبرة في أكوام التبن، فإنه لن يتمكن من “ضرب أي ضربة” على المسمار، طالما أن طاقم السياسيين الحاليين ما انفكّوا قائمين على أوضاعهم في البلد. فالمشكلة، كما يعرف حفيدي إبن السنوات السبع، ليست ولم تكن في شخص الرئيس ذاته، ولا أيّ واحد من رؤساء هذه الجمهورية المزعومة، بقدر ما كانت في البطانة، بطانة القصر الرئاسي أولاً، وقبلها بطانات المجموعات المتحكمة بالبلد ومسارات الإدارة والسياسة والمصالح فيه، بما في ذلك مصائر المخلوقات التي تضرب في طرقاته… هذه المجموعة المتمرسة في سَوس الخرفان من السياسيين الذين خذلوا العالم كلّه وكل شقيق أو صديق مدّ يده لمساعدة البلد. واليوم، وقد أخذنا العالم بجريرة هؤلاء المتصرّفين الذين أعدنا إنتاجهم “ديمقراطياً” بانتخابات عجائبية، فقد تخلّى عنّا وعن بلدنا وتركه يتراقص على أكف ألف عفريت.
وحتى هذه اللحظة يواصل دهاقنة الهيكل أدوارهم، فيحتلون الفضاء العام، ويملأوننا خُطباً حماسية وبسمات مدروسة وقضايا عُظمى ووعوداً أعظم، ويمضون في استعراض عبقرياتهم الوطنية وتضحياتهم لنا/ بنا، ويُحدثوننا عما يُسمونه “صمودنا” و”بطولاتنا”، فيخرج البلد من خلال كلماتهم في أبهى حلل العزّ والمجد والسُؤدد وكل ما يمكن أن يرسمه الوهم على دخان الحرائق، فيصير من واجبنا أن نأخذ علماً أن انفجار البور حدث في بلاد الماوماو وليس في بيوتنا، وأن 17 تشرين لم تكن ثورة بل مؤامرة على القوم المتحكمين الذين هم أنقى أهل البرية طُرّاً، وأن علينا واجب الطأطأة أمامهم، وليسوا هم بالمرّة من سعى إلى تهجير ربع أهل البلد وتطفيش ربع الباقين بمراكب الموت، وأنهم هم أنفسهم الذين يختالون بين مناسباتهم، وكأنّهم ما نهبوا وما قتلوا وما سحلوا، وبالتالي فكل ما شُبّه لنا من ذلك لم يكن أكثر من مؤامرة من الحواس.
أما شهداؤنا الميامين ضد الصهيونية ورُعاتها في الشرق والغرب، رُعبُ مناصري الصهيونية من العلوج الأجانب ومن أبناء العشيرة والقوم، شهداؤنا هؤلاء، فليسامحنا الله بهم… فهم مضوا إلى جنان الخلد متوّجين بالغار والنقاء، وتركونا، نحن الشهداء ــ الأحياء، غارقين في ترددنا وعدم مبادرتنا، ندفع ضريبة الإنتماء إلى وطن تخلّينا عنه لمغتصبيه… باسم ديمقراطية الشعوب العاشبة.
كل هذا… وليس من حقنا أن نستغرب أو نعترض.
أليست الديمقراطية بمعناها العملي، طغيان الأغلبية؟
وهل ذنبنا لأحد أن الأغلبية عندنا من جملة الشعوب العاشبة، كما هي أغلبية شعوب العالم الثالث… والتسعين في الألفية الثانية.