محمود بري | كاتب وباحث لبناني
لعل أهم ما جاء في كلمة السيد حسن نصرالله في خطابه الأخير هي ما يتصل بـ “الميدان”.
هذا ما وجد ترجمته العملية في الأيام الأخيرة المنصرمة حيث اتسعت دائرة التصعيد على الحدود الجنوبية مع فلسطين المحتلة، وتطاول القصف العدو بعيداً داخل الأراضي اللبنانية، مع تصاعد وتيرة سقوط المزيد من ضباطه وجنوده في مواقعه المستهدفة على امتداد الشريط الحدودي.
وبصرف النظر عن الخسائر التي تعرّض لها في الآليات واللوجستيات وأجهزة التجسس والمراقبة والاستشعار. فهذه كلها لم تكن يوماً محلّ اهتمام فعليّ في اوساط قيادات العدو، إذ يمكن تعويضها بالدعم الأميركي غير المنقطع. أما نقطة ضعفه الأهم فهي الخسائر العسكرية البشرية التي تنزل بعديد جيشه “والحلفاء”، هذا الجيش الذي يعاني أساساً من محدوديته العددية. لذلك فهو يُخفيها ويمنع على مختلف وسائل الإعلام التي يسيطر عليها، إعلانها، مُكتفياً بما تُعلنه مصادره عن البضعة عشرات من الضباط والجنود الذين يعترف مُكرهاً بسقوطهم. ومن هنا أيضاً يمكن فهم اتساع بيكار تهديداته بالحرب الشاملة ضد لبنان والتي يهدد بأنها ستطاول العمق اللبناني والمناطق الحدودية، مما دأب كثيرون في الداخل والخارج على التخوّف منه.
لكن العدو يدرك جيداً مقدار تهافت تهديداته. فالمقاومة في لبنان لا تستهدف مدنييه حتى الآن، بل تركز ضرباتها على المواقع العسكرية فقط. والعدو يعلم علم اليقين أن مدنييه وبُناه التحتية والاقتصادية والإنتاجية والحيوية ستكون لقمة سائغة لدى نشوب أي حرب شاملة، ما لن يكون بمقدور آلته العسكرية التصدّي له او الحدّ من جدواه ومن فعاليته التدميرية الهائلة. لذلك فهو لن يغامر بتنفيذ وعيده الإعلامي.
من هنا يمكن فهم تلك الأحاديث مجهولة المصدر التي تُشاع عن نوع ما من وقف إطلاق النار في غزّة، ما يعني توقف موسم “اصطياد البط” على الحدود مع لبنان… وهو التعبير الذي استخدمته الوسائل الإعلامية الإسرائيلية ذاتها. وهذا بالضبط ما يعطي القيمة العملية لحديث أمين عام “حزب الله” وقوله إن “الكلمة للميدان”. وهذا أيضاً ما يفسّر ضغوط واشنطن على الكيان المؤقت لعدم تصعيد المواجهات في لبنان تجنبا لتوريطها في حرب اقليمية، وهي الغارقة في أثقال الحرب الأوكرينية.
وبينما تبدو الحرب الاسرائيلية على غزة مستمرة من دون أيّ أفق زمني واضح، فإن الخسائر البشرية الباهظة التي ينوء الجيش الإسرائيلي بتواصلها، ومعه الجيوش الأخرى الرديفة التي لا تني تنقل جثث قتلاها من الميدان، يجعل من حجم الخسائر البشرية معطى أساسياً والنقطة الأكثر حساسية التي ينبغي أخذها بالحسبان.
ولكل ذلك فإن وقفاً للنار في غزّة يبدو حتمياً وإكراهياً أيضاً، وبرغبة إسرائيلية مكتومة لا يجري التصريح عنها. وبالتالي فالحرب الشاملة في المنطقة والتي تصفها العديد من المصادر الغربية بـ”المحتومة”، تبدو مؤجلة، في ظل الإصرار الكلامي الإسرائيلي على التمسّك بأهداف غير قابلة للتحقيق.
وطالما أن “الكلمة للميدان” فالحرب الشاملة مؤجلة، ووقف النار على الأبواب، بخاصة وأن اقتحام مستشفى الشفاء في غزّة فضح كذبة وجود أنفاق للمقاومة تحت المستشفيات.
والاستنتاج الختامي ان كلام وزير المال الإسرائيلي، “بتسلئيل سموتريش” أنّ إجلاء سكان غزة “هو الحل الإنساني الصحيح لهم وللمنطقة”، ليس اكثر من مجرّد هروب آخر إلى الأمام.