كتب محمود بري | الاقتصاد الأميركي في أزمة والنظام العالمي الأحادي يترنح

محمود بري | كاتب وباحث لبناني

منذ أن اتهم الرئيس الأميركي “جو بايدن”  نظيره الروسي بارتكاب “إبادة جماعية” في أوكرينيا” وبأنه “مجرم حرب.. لا ينبغي أن يبقى في السلطة”، والنظام العالمي الذي ترأسه اميركا يترنح. هذا هو التعبير الحقيقي عن الغضب الأميركي ضد روسيا الذي بلغ مستوى لم يبلغه من قبل، ولا حتى في ذروة أزمة الصواريخ الكوبية.

إلا أن هذا لن يُفضي إلى مواجهة مباشرة بين العملاقين. فالأميركي غارق حتى قمة راسه في أزمة أخرى مختلفة وضاغطة. فهو في وضع اقتصادي متعسّر وإن كان لا يريد الاعتراف بها علنا، على الرغم من أنها باتت حديث الأوساط المتابعة في غير مكان. وما المخاوف “غير الجدية” التي تُنشر بين حين وآخر عن مواجهة عالمية محتملة على خلفية الحرب في أوكرينيا غير وسيلة إلهاء عن المشكلة الأميركية الحقيقية. فواشنطن لا تريد أن يلمس العالم موضع الألم في خاصرتها الاقتصادية، وتحاول التصدي لمشكلتها المتفاقمة ومعالجتها على أنها شان داخلي محض ولا ينبغي أن تتركه يهزّ عرشها على قمة النظام العالمي. وحتى الآن فجهودها هذه لم تحقق الغاية منها، وها هي المخاطر تتزاحم على الأبواب،  وبات واضحاً اليوم أن العدو الأول للهيمنة الأميركية ليس روسيا ولا أي تحالف روسي –صيني محتمل، بل هو يتمثل باقتصاد أميركي مريض… ولو كان يُكابر”.

لننظر ملياً في الوقائع المعروفة. الدين القومي للولايات المتحدة تجاوز في شباط/فبراير الماضي عتبة 30.29 تريليون دولار، مرتفعاً هذا العام وحده بمقدار 2.39 تريليون دولار. سوق الأسهم الذي هو قلب الاقتصاد الأميركي، بات مهدداً ويتوجب إنقاذه بايّ طريقة كانت. الدورة الاقتصادية الداخلية تعاني من ضغوط تضخمية قياسية لم تعرف مثيلاً لها منذ ما يزيد عن الأربعين عاماً، وقد طرقت أبواب الـ. 10%. وحين تتجاوز هذه العتبة ستبدأ مرحلة هروب رأس المال من الأصول الدولارية إلى الذهب وغيره من الأصول الأخرى الملموسة، وهذا يعني المزيد من التضخم. ومع انسحاب المستثمرين من الأصول الدولارية، سيكون من الصعب على وزارة الخزانة الأميركية العثور على مقرضين على استعداد لإقراضهم أموالا بنسبة 3%، بينما يعانون من خسارة 7% من مبلغ القرض (بسبب التضخم الذي تبلغ نسبته 10%).

وهذا رئيس الاحتياطى الفيدرالي الأميركي جاي باول، يحذّر من أن “خفض معدل التضخم فى البلاد إلى المستوى الذى حدده بنك أميركا المركزى بـ 2%، سيسبب بعض الألم”، ويقول إن “معالجة مشكلة الأسعار المرتفعة من دون أن يحدث ذلك ركوداً ربما تعتمد على عوامل خارج إرادته.”

 

التضخم…التضخم

صحيفة “فاينانشيال تايمز” البريطانية لاحظت إن تصريحات “باول” هذه تأتي  وسط حالة من عدم اليقين بشأن التوقعات الاقتصادية، حيث يباشر بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي ما يحتمل أن يكون أسرع تشديد للسياسة النقدية منذ سنوات. وقد رفع معدل الفائدة مؤخراً بمقدار  0.75 من مستويات كانت أقرب إلى الصفر. وتلك واحدة من خطوات البنك التي تتوخى تحويل السياسة إلى بيئة محايدة بحيث لا تؤثر على الاقتصاد. إلا أن هذا لن يكون في المحصلة النهائية غير تعبئة الماء بالسلة. وفي مقابلة له مع موقع “ماركت بلاس”، أكد “باول” صعوبة التوصل إلى  خفض التضخم من دون أن يسبب خسائر فى الوظائف أو ربما حدوث ركود.

في هذا الوقت تحدثت “واشنطن بوست” عن “قلق متزايد فى ظل استمرار ضغوط التضخم”، وقالت “إن الانكماش غير المتوقع للاقتصاد الأميركي بمعدل سنوي بلغت نسبته 1.4% أثار مخاوف من احتمال حدوث ركود فى المستقبل فى ظل استمرار ضغوط التضخم وعدم اليقين بشأن الحرب فى أوكرانيا”. وعزت الصحيفة أسباب الانكماش الاقتصادى إلى “انخفاض مشتريات تجار التجزئة من المخزون، وتزايد الفجوة بين الصادرات والوارادت الأميركية”. وقال الخبير الاقتصادي “كينيث روجوف” الذي عمل في صندوق النقد الدولي في السابق، وهو اليوم  أستاذ الاقتصاد فى جامعة هارفارد “إن هناك بالتأكيد سُحب فى الأفق”…، وإن لديه “مخاوف حقيقية بشأن خطر الركود سواء فى الولايات المتحدة أو فى أوروبا”.

كذلك قالت وزارة التجارة الأميركية إن العجز التجارى فى البلاد قد اتسع إلى مستوى قياسي، وإن العديد من الشركات اشترت مخزوناً أقل من المعتاد فى أوائل العام  2022 ، لأن لديها بقايا من البضائع من أواخر العام الماضى عندما قامت بتخزين سلع إضافية للحماية من النقص والتأخيرات فى سلاسل التوريد. ومعروف أن هذا الانخفاض فى الشراء يمكن أن يؤدى إلى انخفاض مصطنع فى أرقام الناتج المحلى الإجمالى.

المتفائلة الوحيدة في هذه العتمة كانت الخبيرة الاقتصادية “ديان سونك” التي لم تصمد على تفاؤلها طويلاً. فقد قالت إن “لدى أميركا اقتصاد قوي… وقد وفر أصحاب العمل أكثر من 400 ألف فرصة عمل على مدار 11 شهرا متوالية، مما أدى إلى انخفاض معدل البطالة”. لكنها أضافت “إن إشارات الضعف بدأت تظهر، والحقيقة هى أن ارتفاع الأسعار ستكون له عواقب”.

 

هروب إلى الأمام

الديمقراطيون فى الكونغرس سارعوا لتهدئة شكوك الناخبين بشأن الانتعاش الاقتصادى، قبل أشهر فقط من انتخابات التجديد النصفى الحاسمة، والتى ستحدد لمن ستكون السيطرة على مجلسي الشيوخ والنواب فى العامين المتبقيين لبايدن من فترته الرئاسية. ومع ذلك، فقد تجاهل الرئيس بايدن المخاوف من حدوث ركود اقتصادى، وقال إنه غير قلق بهذا الشأن. وهو  أرجع القراءة السلبية للناتج الإجمالى المحلى إلى “عوامل فنية”، ودعا الكونغرس إلى صياغة تشريع من شأنه أن يدعم التصنيع فى الولايات المتحدة. إلا أن الجمهوريين الذين لم تمرّ عليهم هذه التطمينات السطحية، استغلوا الفرصة لتكثيف هجماتهم على بايدن وحلفائه السياسيين، فكشفوا إن هؤلاء فشلوا فى توقع المشكلة التى باتت الآن واضحة. وقال زعيم الأقلية الجمهورية فى مجلس الشيوخ السيناتور “ميتش ماكونيل” إن التضخم الجامح يسحق العائلات الأميركية العاملة تحت إشراف الديمقراطيين، حيث لم يعد الديمقراطيون يشرفون فقط على تعافٍ مخيب للآمال، بل إنهم ألقوا بالانتعاش فى الاتجاه المعاكس، وسيعودون إلى الوراء. وعلّقت “واشنطن بوست” على ذلك بأن “إحدى نقاط الضغط الكبرى على الاقتصاد الأميركى تتمثل بالتضخم، مما يجعله التحدى الأكبر لإدارة بايدن والاحتياطى الفيدرالى في آن”.

هذا كلّه يعني أمراً واضحاً خلف ضباب الأحداث الجارية. إن التحدي الحقيقي للولايات المتحدة الأميركية لن يكون روسيا ولا حربها في أوكرينيا، ولا حتى الصين، بل هو … دولارها الذي تحكم به العالم، وقد باتت تنتظره تجارب مريرة.

هذه هي المشكلة الأميركية اليوم.

أما الخوف الأميركي الأعمق فهو (إلى هذه الأزمة الاقتصادية المتصاعدة) يتأتّى من تطورات الأوضاع في أوكرينيا والتي وصفها وزير الخارجية الروسي “سيرغي لافروف” بأنها “بداية للقطع مع النظام العالمي ذي القطب الواحد، ومعركة لولادة نظام عالمي جديد”.

 

 

 

 

 

 

Exit mobile version