محمود بري | كاتب وباحث لبناني
لا أحد يستطيع أن يقطع بطبيعة العالم الذي سيخرج من تحت الرماد في أوكرينيا، إلا أن هناك جملة حقائق أظهرتها الحرب الدائرة مما لا يمكن النظر إلى المستقبل من دون أخذه بالاعتبار. أول هذه الحقائق أن القانون الدولي يصير بلا أسنان حين يستوجب تطبيقه على قوة نووية عُظمى… وهذا واضح منذ هيروشيما. لذا ينبغي اليوم التفكير بطريقة أخرى للعمل على إنهاء دوي المدافع في أكبر دولة في أوروبا، طالما أن إنهاء جحيم هذه الحرب المشتعلة هو أحد الأهداف الأساسية المُعلنة. كذلك فقد تأكد ما لم يكن مشكوكاً فيه أساساً، وهو أن لا أحد في الغرب كلّه مستعد لأن يموت من أجل أوكرينيا. وها هي متروكة بيد متطرّف قصير النظر يعمل عند سيد لا يأبه بغير مصالحه، بينما الغرب كلّه على طرفي الأطلسي منصرف إلى شتم بوتين ومدّ “زيلنسكي” بما يتيح له إطالة تدمير بلده. من الجهة المقابلة فإن “فلاديمير بوتين” أوضح بالحرف العريض حقيقة لا مراء فيها خلاصتها مدى تصميمه على إكمال عمليته الخاصة، وأظهر للجميع إلى أي حدّ هو مستعد للذهاب في سبيل إقامة هيكلية أمنية يرى أن بلاده تحتاج إليها. وهو أذهل العالم بمدى عناده في سبيل تحقيق هدفه، تماماً كما سبق أن توقعت صحيفة “دي ستاندارد” البلجيكية منذ 22 شباط/فبراير، وبالتالي فلا مجال بعد للمراهنة على تراجعه، لا سيما وأن بيجين أبدت “التفهم لمخاوف الرئيس الروسي جرّاء الترتيبات الأطلسية في شرق أوروبا”. وهذه الطريقة اللينة في التعبير تعتمدها الصين للإعلان عن موقف قاسٍ لا تريده أن يُقفل باب مواصلة الحوار يُعاني مع الطرف المقابل. أما العقوبات (التي يقترب الغربيون بسرعة من حدّها الأقصى الممكن فرضه… والتي بدأ الغرب ذاته من تداعياتها)، فقد تبيّن عدم جدواها حتى الآن، علماَ بأهما لم يكن مُجدية سابقاً ضد روسيا عندما لم تضطر بوتين إلى التخلّي عن ضمّ شبه جزيرة القرم في آذار/ مارس عام 2014. على صعيد آخر لا بد من أخذه بالحسبان، ينبغي ملاحظة أن موسكو، وخلال السنوات القليلة التي سبقت تدخلها العسكري في أوكرينيا، كانت تحضّر أوراق عمليتها العسكرية هذه بعناية ودقة. فقد عملت على خفض استثماراتها في السندات الأميركية من 100 مليار دولار الى مليارين فقط، واتجهت بجزء من أموالها الى سندات آسيوية هي اليوم بمنأى عن العقوبات. هذا التنويع الجغرافي والقطاعي أمكن روسيا من تحييد نحو نصف أصولها وجعلها في أمان بعيدة عن المطرقة الغربية وعقوباتها، ما يشي بأن الروس كانوا يتوقعون ردّات فعل الأميركيين والأوروبيين، وكانوا مستعدين لما يمكن لهؤلاء الإقدام به. وفي ملاحظة هامشية ذات مغزى، لوحظ أن كبار الأثرياء الروس الذين وضع الغرب يده على ثرواتهم بطرقٍ تعسفية بموجب مناخ العقوبات الغربية على الروس، إنما كانوا بمعظمهم من مناصري الغرب نفسه وليس من المحسوبين على بوتين. وهذه نقطة حسّاسة لا يأتِ الإعلام الغربي على ذكرها. أمام هذه االوقائع يصبح من المنطقي التبصّر بمدى جدوى سلاح العقوبات ذاته، ولا بد من الأخذ في الحسبان أن اعتماد واشنطن وخلفها أوروبا هذا السلاح، والذهاب به نحو أقصى حدوده من دون أن يُؤتي أكله، يصحّ اعتباره دليل ضعف وليس دليل قوّة. وهذا لا يبدو بعيداً عن موقف الرئيس الأوكريني “زيلنسكي” نفسه الذي يتطلب ما لا يقلّ عن تدخلٍ عسكريٍ غربيٍ مباشر بدل العقوبات ودفعات الأسلحة والذخائر. وفي ظل مواصلة الرئاسة الروسية تكرار متطلباتها ذاتها كما في أول يوم، والتي أبرز ما فيها حياد أوكرينيا خارج مظلّة الناتو وأن تكون غير منحازة للغرب، مع الاعتراف بالقرم روسية، فربما بات على أوروبا التفكير جدياً بمباشرة التفاوض الجاد على وقف الحرب، بدلاً من ترك الرئيس الأوكريني يواصل مراكمة الخسائر والمعاناة على شعبه من دون أفق، تنفيذاً لأجندة واشنطن الخاصة وليس أجندة أوكرينيا، فقط من أجل إلحاق أكبر الخسائر الممكنة بالجيش الروسي، ولو على حساب أوكرينيا وناسها. إن متابعة الإعلام الغربي اليوم تُظهر أن عبارة “إنهاء هذه الحرب” أصبحت اللازمة التي تتردد في العديد من الصحف والشاشات، وحتى في تصريحات السياسيين الذين غالباً ما يأتون عليها بأساليب تعبيرية مواربة.. والواقع أنه لا يختلف إثنان حول ضرورة إيقاف دوي المدافع وعواء الصواريخ، ووجوب البحث عن سبل أقل عنفاً لحل مشكلة اشعلها الأميركي اساساً لوضع روسيا تحت أمر واقع. والحال فإن إنهاء هذه الحرب لا يمكن أن يتم من دون تنازلات ستكون من دون شك صعبة ومؤلمة على طرفيها. وهذا يتوافق مع ما تراه مجلة “فورين أفيرز” الأميركية غير البعيدة ‘عن كواليس إدارة الرئيس بايدن. إلا أن التحديات الماثلة في هذا السبيل ليست قليلة، ولن تكون مواجهتها سهلة مع متابعة “زيلنسكي” القيام بالمهمة التي يقوم بها حتى الآن، بينما تزداد مأساة أوكرينيا حدّة، كما يقترب النظام الغربي برمته، وبخطى حثيثة، نحو حفرة تضخم اقتصادي هائلة، وتنخفض معدلات نموه بسرعة قياسية، وينصرف الرئيس الأميركي إلى إغراق “حلفائه” في القارة العجوز بوعود بات كثيرون منهم على يقين من أنها لن تتحقق. وهذا ما يؤكده الموقف الألماني الرافض مقاطعة الغاز الروسي (كما يريد بايدن)…، في حين أن وزير الطاقة القطري، سعد الكعبي، رأى منذ أيام أنه “لا قطر ولا أي دولة منفردة أخرى لديها القدرة على أن تسد الفراغ أو تحل محل إمدادات الغاز الروسية لأوروبا بالغاز الطبيعي المسال”. هذا مع العلم أن خبراء غربيين يؤكدون استحالة تمكن الولايات المتحدة من تعويض الغاز الروسي لأوروبا قبل أقل من عشر سنوات. هذه الوقائع تُؤكد ضرورة العمل على إنهاء الحرب في أوكرينيا. وهنا لا مجال للسذاجة. فالحرب تدور بين موسكو وكييف كما هو ظاهر، إلا أن التفاوض على إنهائها لا بد أن يشمل الشرق الفاعل (روسيا والصين من باب أولى) والغرب، أي الولايات المتحدة ومختلف العواصم الأوروبية. وهنا يرنّ جرس الإنذار بالخطر…خطر الاقتراب الخطر من ساعة الحقيقة … هذه الحقيقة التي لن تكون في صالح واشنطن. فالولايات المتحدة الأميركية وضعت أوكرينيا ومعها أوروبا “في بوز المدفع” لكي تقصف روسيا… وهذا وضع جرّ على القارة العجوز ما لن يكون بوسعها تحمّله طويلاً بعد، بقدر ما أن الأوروبيين المتعاطفين مع الشعب الأوكراني، ليسوا مستعدين للمغامرة باقتصاداتهم ومصالحم ورفاههم (الذي باتوا يخسرونه) وربما حياتهم أيضاً، لا من أجل الأوكرينيين ولا فداء لأجندة واشنطن.
Enter