محمد علي فقيه | كاتب وباحث لبناني
عندما تبدأ بتصفح كتاب “أسرار الصراع” للمحلل والناشط السياسي الراحل أنيس النقاش يتبادر إلى ذهنك مؤلفات الصحافي الكبير كاتب محمد حسنين هيكل التي كشف فيها الكثير من الأسرار فيما يخص القضايا العربية والدولية التي كتب عنها.
واضح من فهرس كتاب أنيس النقاش أنه غني بالمواضيع الساخنة من عربية وإسلامية وعالمية. ولا أبالغ إن قلت أن الكتاب بصفحاته الـ296 يشكل مقدمة تمهيدية لفهم القضايا التي تهم أي إنسان لفهم قضايا الأمة العربية الإسلامية وأبعادها. فكما يشكل كتاب “مقدمة إبن خلدون” مقدمة لفهم المجتمع العربي وسنن التغيير الإجتماعية فكذلك هذا الكتاب يشكل مقدمة مهمة لفهم كل الأزمات العربية والعالمية.
إن كل فصل من فصول كتاب “أسرار الصراع” يحتاج إليها المثقف العربي لتشريح ما اَلت إليه الأمور. وقد أحسن المؤلف أنيس بإبداعه المعروف في خلط البلاغة مع الإختصار، في طرحه لكل المواضيع السياسية في كتابه. فكشف عن الكثير من الأسرار حول ظروف تأسيس المقاومة الفلسطينية بقيادة حركة فتح والحرب العراقية – الإيرانية. ونجح في كل فصوله في أن يتحدث عن معلومات وأسرار تكشف لأول مرة حول الظروف السياسية التي تواجهها الأمة العربية والإسلامية.
نتمنى في المستقبل أن تتطوع مجموعة من أصدقاء أنيس لتشريح فكره الاستراتيجي كمفكر موسوعي. فهناك قضايا سياسية كثيرة ناقشها الراحل أنيس في كتابه المكوّن من 23 فصلاً تستحق التوسع والإضاءة عليها أكثر.
إن دراسة تجربة أنيس النقاش السياسية تشكل قاعدة مهمة لفهم تجربة حركة فتح وكل المتغيرات التي عصفت بها، وأسباب انتصار الثورة الإسلامية في طهران، وأبعاد الغزو الأميركي لأفغانستان والعراق، وإعجابه الفائق بتجربة المقاومة الإسلامية في لبنان وخاصة بعد انتصار عام 2000.
يكشف النقاش معلومات تفصيلية في كتابه، لا نعرفها حول بدايات المقاومة الفلسطنية عام 1965. حيث يرى أن الأخطاء التي ارتكبت على الصعيد الإستراتيجي ليست من فعل الأنظمة والرجعية العربية فحسب، بل يؤكد أنه رغم التضحيات الفلسطينية والعربية بدعم المقاومة الفلسطينية بأن الحسابات الإستراتيجية لهذه المقاومة لم تكن دقيقة جداً.
ويؤكد النقاش أن أدبيات حركة فتح قبل عام 1967 كانت تتحدث عن العمليات الفدائية ضد العدو الصهيوني من أجل توريط الدول العربية بعملية تحرير فلسطين،حيث كان هناك اعتقاد بانها مقصّرة في هذا الشان حتى إذا قام هذا العدو برد فعل على هذه العمليات، كانت هناك إمكانية للإنتقال من الدفاع إلى الهجوم، وبالتالي تتكامل المقاومة الشعبية مع الجيوش النظامية.
ويوضح أنه خلال تلك الفترة حتى العام 1970 كان العمل الفدائي لا يزال في بداياته وأكثر العمليات كانت تمر عبر خط الحدود على نهر الأردن، وبالتالي لم يكن قد تجذر في الداخل الفلسطيني. وبعد مجزرة أيلول الاسود في ذلك العالم أُخرج الفدائيون من الأردن تماماً فواجهوا مشكلة من أي حدود يجب أن يتحركوا؟
لم يبقَ منفذ للعمل الفدائي إلا لبنان، بيد أن هذه الجبهة لم تكن مهيئة حينها كما جبهة الأردن الذي يحوي اكثر من مليوني فلسطيني ومخيمات كبيرة وعلى تماس مباشر مع الضفة الغربية بحيث تستطيع المقاومة أن تناور فيها وتدخل إلى القرى الفلسطنية مباشرة في حين أن الجليل الأعلى في شمال فلسطين المحتلة والمواجهة للحدود اللبنانية الحنوبية مباشرة فيه مستوطنات إسرائيلية وليست قرى فلسطنية لذا من الصعوبة القيام بعملية تحريك الجماهير عبر هذه الجبهة.
هذه الظروف جعلت أحد قيادات حركة فتح الأساسية “خالد الحسن” يقدم ورقة عمل سياسية في مؤتمر حركة فتح عام 1971 تتحدث عن أن الحرب الشعبية الطويلة الأمد لا يمكن أن تكون استراتيجية العمل الفلسطيني بعد نكسته في الأردن وخسارته قاعدة الإرتكاز هذه وأن الجبهة اللبنانية لا تسمح لمثل هذا العمل.
وأضاف: علينا أن نخفف عدد القوات ونبقي على عدد قليل لكي يقوموا بعمليات نوعية من وقت إلى اَخر تذكر بحقوق الشعب الفلسطيني بالتزامن مع تفعيل العمل الدبلوماسي، بمعنى أن العمل الفسطيني تحول من فكرة إمكانية القضاء على العدو إلى العمل على إضعاف قواته من أجل تحقيق انتصارات تكتيكية عليه تكون مقدمة لانتصار استراتيجي.
ويعتبر النقاش أن هذه الرؤية اقتبسها الحسن من تجربة جبهة التحرير في الجزائر والمقاومة في فيتنام وحصل في أكثر من بلد تحرر من جيوش الإستعمار.
ويتحدث النقاش في كتابه عن انتصار الثورة الإسلامية في إيران وكيف اعتبرت خطراً على مشاريع بعض الدول العربية الرجعية التي موّلت الحرب الأهلية في لبنان والتي دفعت أنور السادات إلى الإستسلام لصالح الكيان الصهيوني وحرّضت صدام حسين على شن حرب على إيران بدعم من الولايات المتحدة وفرنسا والسعودية ومن الكويت التي مولت الحرب.
ويقول النقاش عن الظروف التي سبقت الحرب العراقية – الإيرانية: كانت أميركا وحلفاؤها وبعض القوى الإيرانية القربية من الشاه قد هيأت سيناريو انقلاب عسكري يقوم به ضباط بعضهم في القوات الجوية وكانت فرنسا على علم بما يخطط وتعهد العراق بتمويل جزء من هذه العملية وكان الهدف من هذا الإنقلاب إعادة الشاه إلى إيران بتحسينات دستورية تجعل حكمه ملكياً دستورياً مخفف السطوة. ولكنه فشل بعدما تم كشفه والقبض على الضباط الذين شاركوا فيه.
إزاء ذلك لم يتبقَ أمام المتاَمرين إلا سيناريو الحرب التي شنّها صدام حسين. ويعتقد النقاش أن وراء التحريض على الحرب ضد إيران مصلحة إسرائيلية في ضرب قوة الجيش العراقي التي كانت ترهبها. فالعراق دولة نفطية لم تكن تحتاج إلى مساعدات من الدول النفطية الأخرى. بل كانت تغدق الأموال على تسليح جيشها بشكل كبير.
وحول انتصار لبنان عام 2000 على الاحتلال الصهيوني، يؤكد النقاش أن هذا الإنتصار أجبر “إسرائيل” على الإنسحاب من الجزء الأكبر من الأراضي المحتلة ولم يتبقَ إلا مزارع شبعا وتلال كفر شوبا. فجعل لبنان أول دولة عربية تجبر الجيش الصهيوني على الخروج من أرضها من دون تنازلات أو مفاوضات، فشكّل هذا الإنتصار ضربة أساسية للإستراتيجية الأميركية التي كانت تريد أن تفهم الجيوش والحكومات العربية أنها لا يمكن أن تحقق نصراً على “إسرائيل” ولا يمكن أن تحصل على حقوقها من خلال الكفاح المسلح.
الخداع الأميركي
يروي النقاش نقلاً عن الكاتب محمد حسنين هيكل في بعض كتاباته في بداية الخمسينيات حيث جرى بينه وبين السفير الأميركي في مصر “جيفري كافيري” أحاديث، ذكر فيها أن مصر ظنت أن الولايات المتحدة ستلتزم بشعار ويلسون، أي حق الشعوب في تقرير مصيرها وإنهاء وجود الأمبراطوريات في العالم. فطلبت منه مساعدات من أهمها صفقة أسلحة كبيرة حتى الرئيس عبد الناصر كان يعتقد أنها قابلة للتحقيق.
ويشرح هيكل أن السفير الأميركي أبدى يومها نوعاً من السلبية أدرك من خلالها أن وراء الأكمة ما وراءها، فطلب منه التحدث بشكل واضح وصريح، فأجاب حينها من دون تردد أن الولايات المتحدة لا تقدم هداياً. فإذا أرادت أن تساعد بلداً ما فعليه أن يكون من ضمن استراتيجيتها وسياستها وتابعاً لها وعليه أن يلتزم بمحاربة الشيوعية. ثم قال له: يجب أن تعلم أننا ننظر إلى كل البلاد الإسلامية من إندونيسيا إلى المغرب، كستار وقوة يجب أن تواجه الشيوعية لأن لديها من الدين ومن الأيديولوجيا ما يسمح لها بأن تتصدى، ونحن نسعى لاستخدام قوة هذه الشعوب لمواجهة الاتحاد السوفياتي.
وللنقاش كتاب موسوعي مهم بعنوان “الكونفدرالية المشرقية” شرح فيه الأسباب التي جعلته يعمل على إعداده. فقد أعطاه الراحل جوزيف سماحة دراسةً بعنوان Constructive Instability للباحث روبرت ساتلوف، تتحدث عن تأثير لبنان على مجمل الدول حوله (الوجود الفلسطيني، مجتمع المقاومة، الانتخابات، الوجود السوري والعلاقة مع سوريا). فكانت هذه الدراسة سبباً لاستعماله فكرة “الكونفدرالية المشرقية” كاستراتيجية بنّاءة، معاكسة لاستراتيجية الفوضى الخلاّقة التي تنفذها أميركا وأعوانها في المنطقة.
نشير إلى أن كتاب “أسرار الصراع” بالأصل هو مجموعة أحاديث قدمها أنيس النقاش على قناة “الإتجاه” العراقية التي ارتأت أن تصدرها في كتاب بمناسبة الذكرى السنوية الأولى لرحيله.
ويعتبر النقاش من أهم الشخصيات الفكرية والسياسية التي كانت تملك “كاريزما” الحضور على الشاشة حيث كان يتمتع بأسلوب حواري يجذب المشاهد إليه. ومن الجدير أن تبادر بعض المؤسسات الإعلامية على دراسة شخصية النقاش ونجاحه الدائم في أي حوار كان يُدعى إليه.