كتب محمد زكريا عباس | صناعة المقاومة في لبنان للصواريخ الدقيقة والطائرات المسيّرة.. الأهمية والتداعيات
محمد زكريا عباس | ماجستير في الجغرافيا السياسية
تحترف المقاومة في لبنان العمليات النفسية مع العدو، وخصوصاً في ما يتعلّق بالكشف عن أسلحتها وتجهيزاتها ومنظوماتها العسكرية. وعلى الرغم من علمها بأنَّ العدو الإسرائيلي يعرف الكثير عنها، فإنها تلتزم الصمت المطبق تارة، وتعلن للناس عن بعضها تارة أخرى، بتوقيت تراه يتناسب مع استراتيجيتها في الصراع مع “إسرائيل”.
موقف العدو الإسرائيلي من الصواريخ الدقيقة والمسيرات
خلال العامين 2013 و2015، أعلن العدو الإسرائيلي عبر الناطق باسمه أنّ حزب الله بدأ بالسعي لإدخال صواريخ دقيقة إلى لبنان عبر سوريا. وفي العام 2017، أي منذ 5 أعوام، كانت بداية تسريبات العدو للصحافة الأجنبية (موقع “إنتلجنس” الفرنسي) عن شروع حزب الله في تحويل “الصواريخ الغبية” التي يمتلكها إلى صواريخ دقيقة، عبر إضافة بعض القطع الإلكترونية إلى جسم الصاروخ.
وفي أيلول/سبتمبر من العام نفسه، اتهم رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق بنيامين نتنياهو في الأمم المتحدة حزب الله بتصنيع الصواريخ الدقيقة. وتكرّرت الاتهامات الإسرائيلية للحزب ببناء مصانع للصواريخ كل عام، منذ العام 2017 حتى يومنا الحاضر. ورغم كلّ ذلك، لم يجرؤ العدو على استهداف أي منها بعمليات عسكرية مباشرة أو غير مباشرة تحمل بصمته بشكل واضح.
أما الطائرات المسيرة، فبعد أن كان العدو يتهم المقاومة بالحصول على طائرات مسيّرة إيرانية، أقرّ في ما بعد بأنّ ترسانة الطائرات المسيّرة بدأ تصنيعها في لبنان. وبحسب تقرير لمركز “ألما” الإسرائيلي، تم نشره بتاريخ 23 كانون الأول/ديسمبر 2021، فإن الحزب كان لديه أقل من 50 مسيّرة في العام 2006. وفي العام 2013، أصبح عددها 200 طائرة. وفي العام 2018، ارتفع العدد إلى حوالى 800 طائرة.
اليوم، وبعد صمت دام سنوات، قرّرت المقاومة في لبنان، عبر أمينها العام، الكشف عن أنها تقوم منذ سنوات بصناعة الصواريخ الدقيقة والطائرات المسيّرة في لبنان، وكان أحد أهداف الإعلان على الأقل، بحسب السيد حسن نصر الله، هو إدخال الفرح والسرور إلى قلوب بيئة جمهور المقاومة أينما وجد، وهو الحريص دائماً على معنوياتهم. أما الأهداف الأخرى، فتركَ للعدو والصديق الغوص فيها.
أهمية التصنيع العسكري
يعتبر التصنيع العسكري من أهم مصاديق بناء القوة الشاملة لأيِّ دولة أو جيش أو مقاومة مسلّحة، فهو يرفدها بحاجاتها التسليحية في وقت أسرع وكميات أكبر، ويمنع أيّ جهة من التحكم في مواردها والضغط على قرارها السياسي، فضلاً عن الاستفادة الاقتصادية التي يمكن تحقيقها في حال تم تصديرها إلى جهات أخرى.
ماذا يعني أن تصنع المقاومة في لبنان صواريخ دقيقة وطائرات مسيّرة؟
في البداية، لا بدَّ من الإشارة إلى أنّ إعلان حزب الله عن صناعته الصواريخ الدقيقة والطائرات المسيّرة في لبنان، لا يعني أنه لا يقوم بتصنيع أسلحة وتجهيزات عسكرية أخرى يُمكن أن يكشف عنها في توقيته الأمثل. مثلاً، من الأمور البسيطة جداً، يدّعي العدو أن الحزب يطوّر صواريخ تحمل رؤوساً متفجرة تصل إلى 500 كلغ، سيقصف بها المستوطنات الحدودية عند محاولته الدخول إلى منطقة الجليل في فلسطين، لما لها من قدرة تدميرية كبيرة وأثر نفسي بسبب قوة التفجير.
وبالعودة إلى أهمية صناعة المقاومة للصواريخ الدقيقة والمسيرات في لبنان، يمكن اختصارها بالأمور التالية:
أ. الأهمية السياسية وجرأة القرار
رغم كلّ التحذيرات الدولية ورسائل التهديد الأميركية والإسرائيلية وما يملكونه من قوة عسكرية واقتصادية، فإنَّ قيادة المقاومة لم تُعر ذلك الأمر أي أهمية، وباشرت بعملية التصنيع، رغم المخاطر المحدقة حتى الآن بمشروع الصواريخ أو الطائرات المسيرة، وهو ما يعكس قوة قرار المستوى السياسي وجرأته في الذهاب بعيداً في هذا الأمر.
ب. الأهمية الأمنية والعسكرية للمقاومة
تكتسب المقاومة من عملية التصنيع عدة أمور:
1. التّخفيف من وطأة استراتيجية “المعركة بين الحروب” التي يعتمدها العدو عبر قصف شاحنات نقل الأسلحة أو أماكن تخزينها قبل أو خلال نقلها إلى لبنان، والوصول إلى حدّ إفشال هذه الاستراتيجية. وقد ذكر معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي في تقديره السنوي للعام 2022 أن “المعركة التي بين الحروب” تعمل على تسريع منافسة التعلّم لدى المقاومة أمام “إسرائيل”، ما يؤدي إلى تحسين قوة التشويش ومحاولات الرد.
2. إغناء ترسانة المقاومة بكميات كبيرة ووافية من الصواريخ الدقيقة والمسيرات توصلها إلى الاكتفاء الذاتي.
3. زيادة مستوى الجمع الاستخباري عن كيان العدو، التكتيكي والعملياتي، وربما الاستراتيجي. وبذلك، يرتفع بنك الأهداف الدقيقة التي يمكن أن تؤمّنها الطائرات المسيّرة إلى الآلاف.
4. ازدياد كمية الصواريخ الدقيقة والطائرات المسيرة سيضاعف قوة المقاومة النارية، ويجعلها ذات فعالية وجدوى أعلى، وسيجعل المزيد من الأهداف الحيوية والاستراتيجية الإسرائيلية في مرمى نيران كثيفة ودقيقة في الوقت نفسه، ما سيؤدي إلى شلل في المطارات العسكرية والمدنية والمرافئ، وتدمير شركات الكهرباء ومصانع الأسلحة والبتروكيماويات ومخازن الوقود ومنصات استخراج النفط والغاز في البحر، والمراكز الحكومية، والكثير من الأهداف الإسرائيلية الأخرى.
5. تشتيت القدرة النارية للعدو، وخصوصاً سلاح الجو، فكلما كانت كمية الصواريخ الدقيقة والمسيرات أكبر، كان انتشارها في لبنان أوسع، وهو ما سيحدّ من تأثيره فيها في حال استطاع استهداف بعضها.
6. القدرة على تجاوز منظومات الاعتراض الصاروخي الإسرائيلية بكلِّ مستوياتها، لأنَّ قدرتها على اعتراض كميات كبيرة من الصواريخ والمسيرات عندما تنطلق في وقت متزامن تكون محدودة، كما أن دقة الصواريخ والمسيرات تجعلها أهدافاً بحد ذاتها لنيران المقاومة الدقيقة.
وهنا، يذكر موقع “ألما” الإسرائيلي ضمن تقريره بتاريخ 23/12/2021 “أنّ الطائرات المسيّرة الموجودة لدى المقاومة تمثّل بالتأكيد تهديداً استراتيجياً، وأن هناك الكثير من الأمثلة على ذلك. على سبيل المثال، يمكن أن تؤدي مهاجمة “سرب” من الطائرات من دون طيار التابعة لحزب الله لأنظمة الدفاع الجوي الإسرائيلية على نطاق واسع في الشمال إلى تحييد دفاعات “إسرائيل” أو إلحاق أضرار جسيمة بها”.
7. قدرة أكبر على المناورة بالطائرات المسيرة المسلحة والمفخخة بسبب كثرتها، وإمكانية استخدام بعضها للتضليل قبل ضرب الأهداف الأساسية من طائرات أخرى.
8. فرض معادلات ردع مع العدو، وخصوصاً مع هشاشة جبهته الداخلية، إذ إنَّ قدرة المقاومة على تصنيع المسيرات ورفع جودتها، مثل قدرتها على تجنّب الرادارات المعادية، سيجعلها أكثر قدرة على الاستمرار بالدخول إلى فلسطين المحتلة، والتسبب بحالة من الإرباك لـ”إسرائيل” وجبهتها الداخلية.
وبالتالي، قد تذهب المقاومة الى الإعلان عن قواعد اشتباك جديدة بهذا النحو، على الأقل في منع الطائرات المسيرة الإسرائيلية من التحليق فوق لبنان، وربما أكثر. وقد يكون هذا أحد أهداف تحليق طائرة “حسان” إلى مسافة 70 كلم في فلسطين المحتلة في الأيام القليلة الماضية وعودتها بسلام.
9. تشكيل الطائرات المسيّرة الكثيرة خطراً كبيراً على المناورة البرية للعدو الإسرائيلي، أولاً من الناحية الاستخبارية عبر رفع مستوى كشف جنوده وآلياته، وبالتالي استهدافه بالنيران. وثانياً، من ناحية سرعة إغلاق “دائرة النار” من الطائرة المسيرة، إذا ما كانت مسلّحة أو مفخّخة، أي تقليص المدة بين لحظة كشفها للهدف ولحظة استهدافه.
10. القدرة على التصنيع تعني القدرة على التطوير مع مرور الزمن، وعلى تزويد الطائرات المسيرة بأنواع عديدة من الصواريخ المختلفة المدى والقدرة التدميرية، أو تزويدها بأنظمة التشويش والحرب الإلكترونية، وبتقنيات الذكاء الاصطناعي.
ج. تضرّر شديد للأمن القومي الإسرائيلي
من يعرف مبادئ الأمن القومي للعدو الإسرائيلي يعرف أنّ تنفيذ العمليات الاستباقية يقع في صميمها، أي استباق تنامي قدرات “عدوه” عبر ضربها في مهدها قبل أن تشكّل خطراً عليه، كما فعل مع البرنامج النووي السوري في العام 2007 على سبيل المثال، ولكن مع المقاومة في لبنان نراه عاجزاً عن الإقدام عن أيّ فعل مع مصانع الصواريخ الدقيقة والمسيرات، رغم ما تشكله من تهديد استراتيجي عليه.
الوهن والضعف الإسرائيلي
يقوم “مفهوم النّصر” الحالي عند العدو على 3 ركائز أساسية؛ أولاً تقصير مدة الحرب، وثانياً دفع أقل تكلفة اقتصادية، وثالثاً القتال بأقل كلفة في الأرواح، فكيف سيستطيع تحقيق تلك الأهداف مع ترسانة كبيرة من الصواريخ الدقيقة والطائرات المسيرة، والتي تتمثل أولى أهدافها برفع مستوى القتل عند العدو، وتدمير منشآته الاقتصادية، وإطالة مدة الحرب حتى يخضع لشروط المقاومة؟!
حتى الآن، يذكر مركز “ألما” الإسرائيلي للأبحاث العسكرية أنّ لدى المقاومة على الأقل 2000 طائرة مسيرة، وبدأت تقارير الإعلام الإسرائيلي المستندة إلى تقارير استخبارية تتحدث عن ارتفاع ترسانة المقاومة إلى 230 ألف صاروخ! فماذا لو كانت لدى المقاومة طائرات مسيرة أكثر من ذلك بسبب قدرة التصنيع لديها؟ وكم صاروخاً دقيقاً باتت تملك؟
منذ عام تقريباً، صرّح قائد لواء أساليب القتال والحداثة في “الجيش” الاحتلال الإسرائيلي، عيران نيف، لصحيفة “يسرائيل هيوم”: “إذا تجاوز حزب الله سقف كمية أو نوعية من السلاح الدقيق، فسنطالب بالعمل ضده”، فيما حدد مسؤولون كبار في “الجيش” الإسرائيلي ألف صاروخ دقيق كخطّ أحمر للتحرك، والسؤال هو: هل يعي هؤلاء ماذا يعني على الأقل سقوط 500 صاروخ دقيق على الأهداف الحيوية العسكرية والبنية التحتية في الكيان الإسرائيلي؟
فليسألوا كبار جنرالاتهم في اللقاءات الداخلية عما يعنيه ذلك. سيتوقفون عن الثرثرة حتماً.