كمال ذبيان | كاتب وباحث لبناني
كل دولة تملك قوتها، التي تتنوع من سياسية واقتصادية وعسكرية الى الموقع الجيو ـ سياسي، والدور الثقافي والفكري، وكذلك ما توفره مساحة الحرية التي تتمتع بها، الا ان كل هذه الأسس، لا تمنع من ان يكون للدولة جيشها الذي يحمي سيادتها وحقوقها، حتى تلك التي تحث باتجاه الحياد، كسويسرا مثلا، انشأت قوة عسكرية، تمنحها الحضور القوي في الصراع بين الامم، اذا تعرّضت لاحتلال وعدوان او نهب ثروات.وفي حالة لبنان، الذي وُصف في مرحلة ما، «بسويسرا الشرق»، لنظامه الاقتصادي الحر، وسرية مصارفه، وحرية الصحافة فيه، واعتماد الانتخابات بالرغم من شوائبها، واجتذاب السياح، الا انه لم يقرر من تولوا السلطة فيه، منذ الاستقلال في العام 1943، ان يبنوا جيشاً له، والذي كان مرتبطاً بالجيش السوري، وكانا قيادة واحدة في ظل الانتداب الفرنسي، الى ان حصل الجلاء الفرنسي في العام 1946، وبات لكل من لبنان وسوريا، جيشه ونظامه السياسي.«فقوة لبنان في ضعفه»، هي المقولة التي استند اليها دعاة «اللبنانية الانعزالية»، وروّج لها حزب «الكتائب» عبر رئيسه بيار الجميل، وترسخ ذلك بعد انشاء الكيان الصهيوني، وفرض النزوح على الفلسطينيين، فاتى قسم كبير منهم الى لبنان، دون ان يدرس من حكموا لبنان، ماذا يعني قيام «الدولة العبرية»، واطماعها في لبنان على مدى المشرق العربي، فيما يسمى «اسرائيل الكبرى التوراتية»، التي لها اهداف توسعية في الدول المجاورة لها، وضرورة قيام جيش قوي بمواجهة مشروعها الاستيطاني الالغائي، كما حصل في فلسطين في العام 1948 ثم في 1967، وفي الحربين التوسعيتين، خسرت فيهما الجيوش العربية، الا لبنان الذي نأى بنفسه عن حرب 1967، ولكن تداعياتها كانت كارثية عليه، الذي تحولت ارضه الى مقاومة فلسطينية ضد العدو الصهيوني، فوقع الانقسام حولها، وافرز حرباً اهلية، واجتياحين للبنان في العام 1978 و1982، واعتداءات دورية بينهما وبعدهما، وكان الجيش موضع خلاف لبناني ـ لبناني حول عقيدته وتسليحه، الى ان اعطاه اتفاق الطائف دوراً يتناغم مع المقاومة في تحرير ارضه من الاحتلال الاسرائيلي، وهي نشأت منذ ان دخلت قواته لبنان، ولم يكن للجيش اي دور فيها، وهو الذي انقسم على نفسه، وتحوّل الى الوية وافواج طائفية ومذهبية، في قراءة لمصدر سياسي عايش تلك المرحلة، ويؤكد بان اللبنانيين وقبل وجود مقاومة فلسطينية، او ظهور حزب الله، كان السؤال عندهم حول الجيش ومهامه، هل انشىء للداخل أم للدفاع عن سيادة لبنان الذي تعرض لمئات الاعتدءات الاسرائيلية، وسُرقت مياهه؟وكان الجواب الرسمي اللبناني، ان قوة لبنان هي في ديبلوماسيته، كما في صداقاته الدولية، وبقوة الامم المتحدة التي لجأ اليها لبنان عام 1978 بعد اجتياح اسرائيلي لارضه، فاصدرت القرار 425 الذي يطلب انسحاب «القوات الاسرائيلية» المحتلة، لكنها لم تتمكن من خلال القوات الدولية التي انتشرت جنوب الليطاني، والبست «اسرائيل» قناعاً لاحتلالها، هم عملاؤها في ميليشيا سعد حداد، ثم انطوان لحد، واجتاحت لبنان في العام 1982، ووصلت الى بيروت لاخراج السلاح الفلسطيني، ولاقامة نظام تابع لها، وتوقيع السلام معها، لكن مخططها افشلته المقاومة الوطنية، ثم «الاسلامية»، وتحرر الجنوب عام 2000، وصمد لبنان بوجه العدوان الاسرائيلي صيف 2006، وتكونت قوة ردع له في وجه اي محاولة او مغامرة عسكرية «اسرائيلية»، وحصل تناغم الجيش والشعب والمقاومة.هذا العرض لواقع لبنان المقاوم، يُستحضر اليوم، مع المعركة الديبلوماسية والسياسية المفتوحة مع العدو الاسرائيلي حول النفط والغاز، وترسيم الحدود البحرية مع الكيان الصهيوني، الذي سبق لبنان في استكشاف النفط والتنقيب عنه وبدأ استخراجه لبيعه وهو سيبدأ في ايلول المقبل، ووقع عقوداً مع شركات نفط ودول، كان آخرها الاتحاد الاوروبي، للتعويض عن وقف استيراد النفط والغاز الروسي بسبب الحرب في اوكرانيا، في وقت يتلهى المسؤولون اللبنانيون، في «جيش ملائكة البلوكات»، منذ العام 2010، وانتظار ما ستعطيهم اميركا من مساحة في المياه الاقليمية، فكان قرار الموفد الاميركي فريدريك هوف الذي وزع «المنطقة الاقتصادية الخالصة» عند الحدود البحرية اللبنانية ـ الفلسطينية، بين لبنان والكيان الصهيوني، بـ 560 كلم2 للاول و300 كلم2 للثاني، فرفض لبنان هذا العرض، حيث توالى ارسال المبعوثين الاميركيين دون نتيجة ايجابية للبنان، الى ان ارسلت واشنطن آموس هوكشتين، الذي حضر مرات عدة للبنان، لكنه لم يعطه حقوقه، بل مارس عملية التسويف واضاعة الوقت، حيث راهن المسؤولون اللبنانيون على الوساطة الاميركية، ووضعوا كل بيضهم في سلتها، لكنهم لم يجنوا سوى تضييع ثروة لبنان النفطية.وفي ظل الانتظار الذي اتبعه لبنان الرسمي، منذ معرفة المسؤولين فيه بوجود نفط في بحره، فان المقاومة اعلنت انها تقف وراء الدولة اللبنانية وما تقرره، لكن مع امتداد السنين «اسرائيل» تتقدم في استخراج نفطها، وتمد الانابيب الى الدول المجاورة كقبرص ومصر، وفي لبنان سجال وجدال وتباطؤ وتواطؤ وارتباط مصالح مع شركات ودول، وعدم الدفاع عن حقوق لبنان، الذي ظهر في انها تصل الى الخط 29 الذي اكتشفه الجيش اللبناني، فلم تعدل الحكومة المرسوم 6433 الذي ارسل الى الامم المتحدة، واستند الى الخط 23، الذي سعى الموفد الاميركي الى ان يتقاسم العدو الاسرائيلي مع لبنان حقل قانا في البلوك رقم 9.وفي وقت تتقدم عملية استخراج النفط الذي تقوم به باخرة يونانية في حقل «كاريش» المتنازع عليه مع لبنان، استدعي هوكشتين الى لبنان، وابلغ موقفا رسميا موحداً الالتزام بخط 23 وحقل قانا كاملاً، على ان يعود بجواب من «اسرائيل»، التي لم يذهب اليها، بل تداول هاتفياً مع مسؤولين فيها، فبادلوه باجواء ايجابية دون معرفة تفاصيلها، ولم يعلن عنها اي مسؤول لبناني، بعد نقل السفيرة الاميركية دوروثي شيا، الجواب «الاسرائيلي» الغامض والمبهم، والذي يقوم على استعداد «اسرائيلي» باستكمال المفاوضات، دون ان تتوقف الباخرة اليونانية عن السير بعملها، حيث لاحظت قيادة المقاومة، عملية النفاق الاميركي ـ «الاسرائيلي»، وعلت اصوات تسأل حزب الله ان يرد على الباخرة اليونانية، وجرى اتهامه بالتواطؤ، وانه يسكت لتأمين مصالح ايران ودعمها في المفاوضات حول الاتفاق النووي.وهذا ما نفاه الحزب واكدته الوقائع، الذي تقول مصادره، بانه عند وعده الصادق دائماً، وها هو يرسل مسيّرات استطلاعية فوق منصة استخراج النفط في «كاريش»، وهو اول رد يعطي قوة للبنان، الذي حاول رئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي في البيان الذي اصدره مع وزير الخارجية عبدالله بو حبيب التنصل عن عملية المقاومة، وان الدولة اللبنانية ليست على علم بها، حيث قرأ مصدر سياسي في هذا الموقف، ضعفا للبنان، بدلا من ان يستثمر «الطائرات المسيّرة» الثلاث، والتي لم يتمكن العدو الاسرائيلي من اسقاط الا واحدة منها، بحيث كان على لبنان ان يضع العملية كورقة قوة، في مفاوضاته مع الوسيط الاميركي وعبره الى «اسرائيل»، التي حاول المسؤولون فيها ان يقللوا من اهمية ما اقدم عليه حزب الله، الذي اكد ان سيادة لبنان وحقوقه النفطية والمائية وسيادته وارضه المحتلة في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والجزء الشمالي من الغجر، لا تنازل عنها وقد ولى زمن التنازلات وضياع الحقوق، وباتت قوة الردع التي تمثلها المقاومة هي المفاوض الفعلي، لا الديبلوماسية المزيفة التي لم تحرر ارض لبنان، ولا الاعتماد على اميركا المنحازة للعدو الاسرائيلي.