فراس ديب | كاتب سوري
تسدلُ الستارة اليوم على بطولةِ كأس العالم في قطر، شِئنا أم أبينا ستبقى هذه البطولة أحد أكثر الأحداث الرياضية إثارة للجدل عبر التاريخ منذُ نيل المشيخة حق الاستضافة وصولاً للمفاجآت الرياضية كفوز منتخبين عربيين هما تونس والسعودية على طرفي المباراة النهائية فرنسا والأرجنتين وطفرةَ المنتخب المغربي، بذات الوقت كثرةَ الحديث عن كواليس «المؤامرة»، وتعمد قادة كبريات الشركات الراعية إيصال النجم الأرجنتيني ليونيل ميسي نحو النهائي وهل دفَع النجم البرتغالي كريستيانو رونالدو ثمن التعدي على «زجاجتي كوكا كولا» غالياً، ففتح على نفسهِ عش الدبابير عندما لم يدرك معنى إهانة الرأسمالية المتوحشة؟ ستبقى هذهِ الأسئلة من دون أجوبة لكننا حكماً نمتلك الكثير من الأجوبة لتحديد مفهوم الرابح والخاسر كجردةِ حسابٍ غير رياضية لهذا المونديال.
أولاً: كسرَ هذا المونديال الهيمنة الأوروبية في تنظيمِ البطولات، فهذهِ الدول تعيش حالة من النظرة الفوقية لكل مالهُ علاقة بتنظيم الفعاليات الكبرى، هذه الفوقية لا علاقة لها أبداً بكون البلد المنظِّم هذه المرة هو بلد عربي، وفي الحقيقة أن هذه الفوقية مارسها الأوروبيون حتى عندما استضافت روسيا المونديال الماضي رغم ما تمتلكه هذه الدولة من إمكانياتٍ متطورة، فكان الهجوم عليها يتركز على نقطةِ الحريات والديمقراطية، أما عندما استضافت البرازيل المونديال قبل الماضي فكانت الصحف الأوروبية تحديداً الساخرة منها تنشر الكثير من الكاريكاتيرات التي تتحدث عن الفروق الهائلة بين المناطق المحيطة بالملاعب والأحياء الفقيرة في البرازيل في إشارة إلى أن من لم يستطع النهوض بالواقع الداخلي لديهِ لا يستحق الحصول على تنظيم كهذا، مع العلم أن هذه الأحياء أنجبت أفضل اللاعبين بتاريخ المستديرة.
هذه العقلية سقطت حكماً بالضربة القاضية في مونديال الدوحة، فشاهدنا مونديالاً أكثر من رائع على مستوى التنظيم والنقل والخدمات باعتراف الكثير من الأصدقاء الموجودين على أرض الواقع وهم لا يتفقون في السياسة مع قطر، لكن هناك من سيسأل: هل قطر هي التي نظَّمت أو شيدت؟ هي عبارة عن كيسِ مال مفتوح غرفَت منه الشركات الأجنبية ما تيسر لها، ربما تبدو هذه المقاربة منقوصة لأن طبيعة أحداث كهذه وما تحتاج إليه من بنى تحتية وصولاً إلى الأعلام المرفوعة تعني حتمية الاستعانة بشركاتٍ حول العالم، يوماً ما قبلَ مونديال كوريا واليابان صدَّرت مدينة حلب ملايين القمصان القطنية التي احتاجتها البطولة. الروس استعانوا بطواقم إخراج وغيرها الكثير من الأمثلة، حتى في الحدثِ الأبرز الذي استضافتهُ سورية وهو دورة ألعاب البحر المتوسط كان للأصدقاء السوفييت حصة الأسد في التدريب والبناء والتشييد، هل كنا نقول يومها إنها كانت بطولة سوفييتية وليست سورية؟
ثانياً: بدَت القضية الفلسطينية أحد أكبر الرابحين في هذا المونديال، لكن مناقشة هذه الفكرة في الحقيقة هي أشبه بحقلِ ألغام بين رافضِ ومؤيد، هنا دعونا نأخذ أهم تساؤلٍ للرافضين ونجيب عنه لكي تتضح الفكرة: كيف للدولة التي كانت من أوائل الدول التي فتحت أبوابها للكيان الصهيوني عبر مكتب تمثيلي واتفاقيات اقتصادية أن تكون مدافعة عن القضية الفلسطينية؟
الجواب هنا بسيط، ومن قال أساساً بفكرةِ أن قطر استضافت المونديال لتدعم القضية الفلسطينية؟! هنا يكون التساؤل بمحلهِ لكننا نتحدث عن استغلال الحدث بمعزل عن الدولة التي تنظم، وهذا أمر مختلف تماماً، ثمَّ من قال إن هناكَ تعويلاً على الأنظمة؟ عندما نتحدث عن دور مونديال قطر في تعويم القضية الفلسطينية فإننا نتحدث عن البقعة الجغرافية التي تستضيف المونديال وليس النظام السياسي الذي يستضيفها، نتحدث عن المد الشعبي والجماهيري الذي استغل الحدث أفضل استغلال ليس فقط من زاويةِ رفع العلم الفلسطيني في كل مكان لكن من زاوية رفض التطبيع، هل شاهدنا الفيديوهات للجماهير العربية التي ترفض الحديث لوسائل إعلام العدو؟ ربما لو كانت هذه الفيديوهات لمواطني دولة ثانية غير عربية لجرى التطبيل لها ليلَ نهار، لكن لأن هناك من يريد إقناعنا أن كل عربي هو خائن ومطبِّع فقط لأن لديهِ مشكلات حاقدة مع العروبة ويراها من بوابات الأنظمة ليسَ اقتناعاً بوجهات نظرهم لكنها البوابة التي تسمح له ببث أحقادهِ تماماً كمن يرى الإسلام من منظور ابن تيمية وتناقضات البخاري وصراعات تُجار المذاهب جميعاً، فلا مصلحة لهُ بتعويم فيديوهات كهذه على أهميتها، هل لنا أن نتذكر بأن وسائل التواصل الاجتماعي فرضت حظراً على العبارات المتعلقة بفلسطين والمقاومة بينما استغل أبناء العروبة الفرصة المتاحة بأحسن حال لإيصال الرسالة بذات الوقت لمليارات البشر؟
في السياق ذاته نجحت هذه البطولة في إعادة تعويم التضامن العربي ولو بحدودهِ الدنيا، البعض كان يسأل وكيف سنشجع هذه الدولة العربية ومنتخبها لا يتكلم العربية؟ بهذا المفهوم لماذا تطلب مني تشجيع المنتخب الإيراني وهو لا يتكلم العربية؟ هل المقياس لديك هو اللغة؟ العقلية؟ أم الشعب الذي يمثلهُ هذا المنتخب؟ لو تعاطَينا بالطريقة ذاتها التي تفكرونَ بها عبر الربط بين الحاكم والشعب لكنَّا كفرنا أول ما كفرنا بالقضية الفلسطينية ذات نفسها، عندما تستمع إلى عمر دي فونسيكا، وهو لاعب أرجنتيني سابق ومحلل إحدى القنوات الفرنسية، يحذِّر قبل المباراة بين فرنسا المغرب بأن «أحد أهم عوامل قوة الفريق المغربي لأنه يلعب وكأنه على أرضه، الجماهير العربية شكَّلت مجموعاتٍ لدعم الفرق العربية»، هنا علينا ألا نكون بهذا التشاؤم، نؤمن فعلياً بأن وردة لا تصنع حديقة لكنها قادرة أن تُعيد الأمل بهذا العمق العروبي الذي دفعنا ثمنَ ابتعادنا عنه كثيراً.
ثالثاً، نجحَ هذا المونديال فعلياً بإعادة تعويم الكثير من القيم، هنا لا فضل لقطر ولا لدولة بعينها بذلك، نحن نتحدث عن إرثٍ اجتماعي عريق يمتد من الخليج العربي إلى المحيط الأطلسي، مما لاشك فيه بأن موقف أبناء المنطقة من رفعِ شعار المثلية في الملاعب جاءَ كعلامةٍ فارقة في الحدث، ربما أن حارس المنتخب الفرنسي هوغو لوريس هو أفضل من تعاملَ مع الإشكالية بذكاء عندما قال: «عندما تدخل بيتي عليك التزام عاداتي وتقاليدي وعندما أدخل بيتك علي أن ألتزم الحدود التي تضعها عاداتك وتقاليدك»، مقاربة أخرجت المنتخب الفرنسي مبكراً من السجال المتعلق بالمثلية لكن على المستوى العام أوروبياً عادت التساؤلات المنطقية: لماذا علينا أن نربط حياتنا ومستقبلنا ونظرتنا للآخر عبر الميول الجنسية لقلةٍ من البشر؟
إعادة إحياء هذا السؤال هو بحدِّ ذاتهِ إنجاز تحديداً أن الجانب الشعبي عموماً وأتحدث عن فرنسا كمثال، يرفض تعويم المثلية كأمرٍ واقع، هناك من يذهب أبعد من ذلك بالقول: إن إقرار قانون زواج المثليين لم يتم عبر الأطر الأكثر ديمقراطية، لم يتم طرحه على المواطنين للتصويتِ مباشرة ولو فعلوا ذلك لما مرَّ القانون، لكن الرئيس السابق فرانسوا هولاند مررهُ عبر أغلبيته البرلمانية باستخدام المادة الدستورية 3 – 43 والتي توصف بالمادة الديكتاتورية التي تُلزم النائب بالتصويت على القانون والثقة بالحكومة بذات الوقت، فيضطر للتصويت عكس قناعاته بهدف إنقاذ الحكومة، هناك من يرى بأن ثلة من المثليين وصلت إلى مراكز القرار فحاولت تعويم توجهاتها، لماذا تريد أن تفرض علي أن أدعم المثلي بشكلٍ خاص؟ هل سيأتي اليوم ويطالبنا فيه البعض بدعم الشواذ من أصحاب الميل لمعاشرة الحيوانات أو ممارسة زنى المحارم؟! هناك من تساءل أيضاً كيف نجح العرب بتخطي هذه العقدة؟ ربما لم تطل الإجابة كثيراً حتى وصلت عبر المشاهد العائلية ليسَ للاعبين فحسب لكن للجماهير أيضاً، إعادة تعويم مفهوم العائلة ووجودها في الأفراح كان لهُ فعل سحري أتقنه اللاعبون العرب، هذا الاختراق هو أمر صحي يجب النظر إليه بالكثير من الواقعية أو على الأقل دعونا نسمه إعادة شرحٍ لمفاهيم العائلة والمجتمع بطريقةٍ تحافظ على الطبيعية البشرية للأغلبية الكاسحة للبشر.
في الخلاصة: بدا الحدث المونديالي فعلياً فرصة كبيرة لإعادة العرب نحو الواجهة من بواباتٍ عدة، لكن ما هو أهم اليوم هي النظرة نحو المستقبل بطريقة تستثمر في إنجازات هذا المونديال، تحديداً بما يعيد تجميع قوانا وليس ما يرسِّخ عوامل التفرقة والحقد، لا مانع من اختلاف وجهات النظر لكن الثوابت لا اختلاف عليها ولا بها، والثابت الذي سأبقى أدافع عنه حتى آخرَ نقطةِ حبرٍ في دواتي: لا بديلَ لنا من العمق العربي.. لا بديل.
المصدر : صحيفة الوطن السورية