غالب قنديل | رئيس مركز الشرق الجديد
في ملفات ذاكرة حرب تموز تبرز حضانة سورية للبنانيين الذين هجّرهم العدوان، وقد جاوزوا نصف مليون نازح، نظّمت الشقيقة سورية احتضانهم، واتخذت سلسلة تدابير عاجلة واستثنائية، وسخّرت مؤسساتها ومرافقها العامة لتيسير إقامتهم اللائقة وعيشهم بكرامة، كما وفّرت لهم رعاية صحية واجتماعية.
علامة فارقة يطمسها المنكرون والمتآمرون، الذين لا يدّخرون جهدا في التحريض وبثّ الأحقاد ضدّ سورية، وينفثون السمّ العنصري الخبيث على النازحين السوريين، الذين هجّروا من ديارهم على يد عصابات مجرمة لا تقل وحشية عن الصهاينة وسائر عملائهم في المنطقة.
تكشّفت وجوههم الكالحة، وتحركوا بكلّ سمّية العمالة والكراهية بإشارة انطلاق العدوان على سورية، الذي كان في صلب دوافعه قطع شرايين حياة بين لبنان المقاوم وشقيقته الكبرى وجارته. وللأسف فإن آثار تلك الصفحات السوداء ما تزال دون معالجة.
كانت الحرب على سورية واحدة من أبشع الحروب الاستعمارية الأميركية وأعقدها في تاريخ الشرق المعاصر، بل في تاريخ الحروب المعاصرة، حيث اجتمع ضمن النطاق السوري نمط الغزو والاحتلال بواسطة الجيوش مع نمط الحرب بالقيادة من الخلف عبر عصابات العملاء وفصائل المرتزقة المدارة بواسطة وكلاء الاستخبارات الأميركية والتركية والصهيونية.
اجتمعت في تدبير خراب سورية أصابع وألسنة سوء لبنانية لعملاء يحركهم الغرب، وما يخفى أدهى وأقذر من كلّ ما هو ظاهر، لكنّ أخطر ما يجري راهنا، هو طمس الذاكرة، وفيها بالذات ما يكشف سرّ الاستهداف. وإن سئل اللبنانيون والعراقيون والفلسطينيون عن فصول الإغاثة السورية في محنهم لأفاضوا، وبعضها ما يزال جاريا مستمرا باستمرار الأسباب والدوافع، كحالة اللجوء الفلسطيني، الذي يعتبر التعامل السوري معه استثناء فريدا في رقيّه وكرمه، وحاشى أن نقيسه مطلقا بالعنصرية اللبنانية.
لم تُجمع ولم توثّق مرويات الحضن السوري المفتوح أمام مئات آلاف اللبنانيين، الذين هجّرهم العدوان، ولم تجمع مستنديا وتوثيقيا سلسلة التدابير الحكومية والقرارات الرئاسية السورية لإغاثة وإيواء الأشقاء، الذين لم يجدوا غير الترحاب وكلّ الحب والدعم السخي في الحضن السوري، ودون سؤال عن هوياتهم الطائفية أو الحزبية أو ميولهم السياسية، فالشقيقة سورية فتحت قلبها وعقلها وحضنها بلا حساب، ولم تدقّق في التفاصيل. وهذه الصفحة المطموسة في هوّة الإنكار اللبناني تستحق الإحياء والإنعاش.
لم تكن مصادفة كثافة الغارات الصهيونية، التي تركّزت على طريق بيروت – دمشق، ولا حجم التدمير الكبير، الذي ألحق بها، واستغرقت وقتا غير قليل إزالة تلك الكدمات والحفر، التي كان بعضها جسيما بهدف قطع التواصل بين البلدين التوأمين. وفي يقين الصهاينة والأميركيين ومعلوماتهم الاستخباراتية أن بعض إمداد المقاومة يصل عبر سورية، وهو لم ينقطع. وبرزت بعض معلومات قليلة سُمح بتداولها عن عتاد متطور سوري وايراني أرسل الى حزب الله تحت النيران والقنابل، ووصل الى المواقع القتالية بفضل جنود وضباط مجهولين من الجيش العربي السوري والحرس الثوري الإيراني وحزب الله.
تناقل بعض شباب المقاومة على نطاق ضيّق مرويّات وشهادات غير موثقة عن ضباط من الرتب العليا في الجيش العربي السوري والحرس الثوري شوهدوا ينقلون اليهم الصواريخ والعتاد على أكتفاهم تحت النيران الصهيونية. وكانوا بذلك يبنون مداميك الشراكة، ويعمّدون أخوّة التراب والمصير الواحد في خنادق الدفاع والمقاومة ومنع النيل من الإرادة والوعي التحرّريين، ومن كلّ بارقة تضامن وتكامل في هذا الشرق.
نأمل من قيادة حزب الله والقيادة السورية الشقيقة توثيق تلك الوقائع وجمعها لتُحفظ ولتُستثمر في أعمال أدبية وتوثيقية وفنية. فلا يطويها النسيان وتندثر أو تتعرّض للتشويه والتزييف على يد أعدائنا المتحفّزين دائما، والذين تغلغلوا وسيطروا على مساحات واسعة من منصّات الإعلام والثقافة الجماهيرية، ولا سيما في لبنان المنكوب بنخبه المخلّعة وإعلامه المرتزق والمخترق، وبعضه مشبوك بالسفارات والأجهزة الأميركية والغربية المكرّسة بكلّ خبثها لخدمة الصهاينة.