غالب قنديل | رئيس مركز الشرق الجديد
شغل الحدث الأوكراني مركز الاهتمام العالمي والإقليمي سياسيا ودبلوماسيا واعلاميا. وقد تلقينا الموقف الرسمي اللبناني الصادر حول الأزمة الأوكرانية وتفاعلاتها الميدانية بالتعجّب والاستغراب، بين الاشتباه بتنفيذ تعليمات أميركية عاجلة في حشرة خانقة، وبين استحكام خَبل أكيد، يقوده التعامي عن مصالح لبنان القريبة والبعيدة.
فكيف يُعقل قبول التراصف اللبناني الرسميّ خلف واشنطن في زمن انهيار وخراب، فتحت معه روسيا بوابات إسعاف عاجلة بمبادرات سخية لا يمكن لأي عاقل تجاهلها وإسقاطها من حساب المواقف والسياسات، التي يُفترض أن تراعي المصالح الوطنية القريبة والبعيدة.
كنّا سنفهم لو حضرت فلسفة الدبلوماسية “البوملحمية ” التي تقدّم النصائح والعظات في الأزمات العاصفة بتوسّل الحلول السياسية والتفاهمات الحبّية، مع تحيتنا لروح الفنان المبدع أديب حداد “أبو ملحم” ولكلّ مشايخ الصلح في مجتمعنا وتراثنا.
الانحياز السافر الى ضفة الصراع الواقعة في الخندق الأميركي أمر لا يَحتمل التأويل، ولا يُقبل على أنه اجتهاد عارض أو هفوة مع ديبلوماسي عريق ومخضرم مشهود بخبرته وباعه الطويل، وهو باحث مرموق في الاستراتيجيات وفي ملفات الشرق العربي والعالم، وغلطة الشاطر بألف بل أكثر.
مصالح لبنان القريبة والبعيدة تقتضي الحرص على العلاقات مع الأصدقاء الروس، الذين لم يقصّروا في جميع الظروف بإبداء التضامن والتعاطف مع لبنان، ودعموا مواقفه السياسية في جميع المحافل وعبر محطات ومفاصل حرجة. وآخر التعبيرات كانت العروض الروسية السخيّة والميسّرة، التي تبلّغها لبنان رسميا بعد الكارثة المالية والاختناق الاقتصادي.
هذه ليست هفوة عارضة يا معالي الوزير، بل خطيئة مشينة، تّناقض ما عوّلنا عليه من حكمتك وتبصّرك وخبرتك بعد تسميتك لهذا الموقع الحسّاس. ولا نحسب أحدا يستطيع تزيين المنزلق لمن هو في خبرتك ورصانتك. وأنت تعرف جيدا مقدار احترامنا وتقديرنا، لكننا لا نخاتل أو نداهن، ونصارح الصديق عملا بالحكمة القائلة صديقك من صَدقَك لا من صَدَّقك.
لبنان في حاجة أكيدة للبحث عن سبل تطوير العلاقات والشراكات مع سائر الدول في العالم، ونكرّر أننا لا نقترح إدارة الظهر للغرب أو معاداته بصورة مطلقة ومن غير معاينة القضايا والملفات بدقة وقياس المصالح الوطنية اللبنانية واتخاذ ما يناسبها من خيارات مبدئية وعملية.
في هذه القضية، أي الموقف من الأزمة الأوكرانية المتفجّرة، تُمثِّل أيُّ هفوة تثير الحساسية الروسية مسّا بمصالح البلد، وكلُّ تموضع أو تخندق إلى جانب الأميركي وخلفه، هو تراصف يؤذي المصالح اللبنانية القريبة والبعيدة، والأدهى أنه يناقض أيَّ اعتبار أخلاقي أو قِيَمي في ظل التبنّي الأميركي الفاضح للمواقف والإملاءات الصهيونية العدوانية على مدى عقود. بينما استمرّ الموقف الروسي خلال الحقبة السوفيتية وبعدها داعما للبنان وحقوقه وسيادته ضد الاعتداءات والحروب الصهيونية.
القوة الروسية ستفرض واقعا جديدا يناسب مصالحها، وستجد السبل المناسبة لحسم الصراع واعادة ترتيب الوضع داخل أوكرانيا في أعقاب الجراحة التي كانت درسا لسائر دول الجوار الروسي من جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، التي يسيل اللعاب الأطلسي للسيطرة عليها واستتباعها لخنق القوة الروسية وتكبيلها.
لن يلبث الغرب أن يعترف بالواقع الذي تحميه التوازنات القاهرة وتمنع الانقلاب عليه او اختراقه، بينما يسدِّد المتورطون في ركابه في منعطف الصدام فواتير خَبَلِهم وخنوعهم أمام المشيئة الأميركية.
لبنان معنيٌّ بالوقوف إلى جانب روسيا والرّسملة على شراكات مستقبلية واعدة، بدلا من التصرّف عكس السير بذهنية ماضوّية يحفزها الانخلاع المتأمرك على حساب لبنان وشعبه.