عمر معربوني | باحث في الشؤون السياسية والعسكرية
كان واضحاً لدى المراقبين ان نمط العمليات العسكرية الروسية بدأ بإلإتجاه نحو اعتماد الدفاع وإعادة التموضع بما يتناسب مع حجم القدرات ومساحات مسرح العمليات، وهو بتقديري تدبير مؤقت بانتظار اكتمال جهوزية قوات التعبئة الجزئية وبدء تموضعها على خطوط القتال.
وللتذكير، وبمرسوم أصدره الرئيس فلاديمير بوتين تمّ استدعاء 300 الف مقاتل سيتولى حوالي 200 الف منهم مهام قتالية على خط الحد الأمامي للجبهات وخط الدفاع الثاني، بينما ستوكل مهام إدارية ولوجستية لـ 100 الف آخرين حيث لا تقل أهمية مهام عسكريي الإدارة والإمداد عن مهام وحدات الحد الأمامي وهي ثغرة عانت منها وحدات الجيش الروسي على خط جبهة يقارب الف كلم يحتاج في الحد الأدنى لــ 500 الف جندي.
مع اكتمال زج عناصر التعبئة الجزئية سيشارك في القتال حوالي 400 الف جندي روسي يتوزعون في مهامهم بين وحدات قتال على الحد الأمامي ووحدات دعم ( مدفعية ــ صواريخ ــ مدرعات ــ إشارة ــ تموين الخ )، ووحدات حراسة على المنشآت والبنى التحتية الى جانب وحدات الأمن المختلفة في المناطق الأربعة التي انضمّت لروسيا وهي لوغانسك ودونيتسك وزاباروجيا وخيرسون.
بعد انسحاب الوحدات الروسية من ايزيوم وبالاكليا وليمان وكراسني ليمان وتنفيذ عملية السحب الأخيرة من الضفة الغربية لنهر الدنيبر، يبدو واضحاً ان الجيش الأوكراني يزيد من عملياته الهجومية رغم كلفتها العالية عليه في العديد البشري والمعدات، والسبب بتقديري هو رغبة القيادة الأوكرانية بتحقيق انتصارات ذات طابع استراتيجي، وليس عملياتي وتكتيكي فقط تُجبر القيادة الروسية على وقف العملية العسكرية والذهاب الى التفاوض.
وفي حين انّ ما أنجزته القوات الأوكرانية حتى اللحظة لا يمكن اعتباره انتصارات استراتيجية يمكنها إحداث تحولات كبرى في الميدان، الاّ انّ القيادة الأوكرانية تخطط لشن هجومين كبيرين هما بمثابة مغامرة ستكون لها تداعيات سلبية على مجمل جهوزية الجيش الأوكراني في حال فشل الهجومين.
الهجوم الأول يستهدف شق طريق الى شبه جزيرة القرم عبر السيطرة على اللسان البحري جنوب غرب مقاطعة نيكولاييف في منطقة كينبورن والوصول الى مدينة ارميانسك، وهي أولى اكبر مدن شبه جزيرة القرم وفي هذه الحالة على القوات الأوكرانية ان تقطع مسافة 155 كلم باتجاه الشرق.
يُذكر ان القوات الأوكرانية ستعمد الى تنفيذ انزالات بحرية عبر خليج الدنيبر لتحقيق سيطرة اوليّة وإقامة موطيء قدم لتنفيذ هذا الهجوم الذي يستلزم مظلة جوية لحماية قوات الإنزال يبدو ان بديله هو وصول زوارق مدرعة من بلدان غربية مختلفة ومنظومات دفاع جوي لمنع طائرات الهليكوبتر الهجومية الروسية وطائرات الدعم القريب من التأثير في تقدم القوات.
الهجوم الثاني الذي تعد له القوات الأوكرانية هو الوصول الى مدن ماريوبول وبرديانسك وميلوتوبول، وهذا برأيي قمّة الجنون لأن تنفيذ هكذا خطط يحتاج الى انهاء فاعلية الأسلحة الروسية المهيمنة على الميدان بدءاً من الطيران مروراً بالصواريخ وصولاً الى الوحدات المتمركزة في هذه المناطق.
كما ان تحقيق هكذا هدف يعني بشكل مباشر هزيمة روسيا بابعاد استراتيجية لن تقوم لها بعده قيامة وهو ما لا يمكن لروسيا ان تتقبله.
بالإشارة الى ما تمّ ذكره أعلاه يهمني القول ان شرح اتجاهي الهجوم الأوكراني هو مجرد تصور افتراضي انطلاقاً مما يفكر به الجيش الأوكراني ومن ورائه اميركا والغرب بشكل عام.
مقابل التفكير الأوكراني نشاهد سلوكاً بارداً الى حد كبير تمارسه القيادتين السياسية والعسكرية في روسيا، ويتم التركيز على عمليات الدفاع النشط واستنزاف القوات الأوكرانية حيث من الملاحظ وبحسب المواقع الأوكرانية نشر عشرات المنشورات اليومية التي تصدر متضمنة أسماء اعداد كبيرة من القتلى.
بموازاة عمليات الدفاع النشط والإستنزاف بدأت الوحدات الروسية تستعيد المبادرة عبر تنظيم عمليات هجومية في ظاهرها عمليات ذات طابع تكتيكي، لكنها ضمنا تحمل طابعاً عملياتياً وتحديداً ما يحصل على جبهة بافلوفكا ــ نيكولسكايا وما حصل البارحة على جبهة جنوب غرب مدينة ارتيومفسك التي سيتم تطويقها قريباً بالنظر الى طبيعة العمليات التي ينفذها الجيش الروسي.
ومن الجدير ذكر ان مدينة ارتيومفسك هي مدينة استراتيجية سواء بموقعها الذي يُعتبر عقدة ربط في اتجاهات مختلفة او بالنسبة الى حجم التحصينات الموجودة فيها وفي محيطها، لهذا يبدو ان هدف الجيش الروسي الأساسي هو الحاق الأذى النفسي اكثر منه الميداني العسكري بالجيش الأوكراني.
بتقديري ان العمليات الهجومية الروسية ستبقى ضمن حدودها الدنيا وسيكون الجهد الرئيسي مركّزاً على منع الجيش الأوكراني من تحقيق أي إنجازات ميدانية أقلّه خلال الشهر القادم حتى انجاز زج كافة عناصر التعبئة وتموضعهم في مواقعهم واستلامهم لمهامهم كاملة، عندها سنكون امام مشهد آخر مختلف تماماً عن المشهد الحالي خصوصاً ان الوحل والصقيع سيكون الى جانب الجيش الروسي المجهز بشكل أفضل من الجيش الأوكراني لخوض القتال في الظروف القاسية.