عمر معربوني | خبير عسكري خريج الأكاديمية العسكرية السوفياتية – رئيس تحرير موقع المراقب
“رغم أن الموت والدمار والمعاناة كانوا من نصيب طرفي الصراع في تصعيد الأعمال العدائية بين الجماعات الفلسطينية المسلحة في قطاع غزة والجيش الإسرائيلي، فإنّ ذلك الصراع لا يزال غير متكافئ إلى حد كبير.
وتعدّ إسرائيل الطرف الأقوى إلى حد كبير، وتمكّنها قواتها الجوية وطائراتها بلا طيار (درونز) وأنظمة جمع المعلومات الاستخبارية من ضرب الأهداف التي تشاء في غزة.
تصر إسرائيل على أنها تستهدف فقط المواقع المستخدمة لأغراض عسكرية، لكن كثافة السكان الفلسطينيين وحقيقة أن منشآت حماس والجهاد الإسلامي تقع بالقرب من المباني المدنية وغالبًا ما تكون مخبأة تحتها يجعل تجنب وقوع إصابات في صفوف المدنيين أمراً مستحيلاً” .
كان هذا اقتباساً لمحلّل الشؤون الدولية في موقع BBC جوناثان ماركوس، وهو تحليل يتكرّر كل يوم في صفحات المواقع المعادية للقضية الفلسطينة وهدفه الأساسي التقليل من قدرات المقاومة ونشر ثقافة الرعب واليأس، والقول أنّ المنتصر في نهاية الأمر هو كيان العدو، وأنّ كل ما تفعله المقاومة لن يُجدي نفعاً وهو بمثابة عبث لا طائل منه.
في جانب من جوانب المواجهة من المؤكد أنّ كيان العدو يمتلك قدرات هائلة عسكرية واقتصادية ومالية، لكن المحللين الغربيين ومعهم عدد كبير من المحللين العرب يغفلون أنّ المواجهة ليست مواجهة تقليدية كلاسيكية، وأنّ المقاومة في فلسطين كما هو الحال في لبنان تخوض حرباً لا نمطيةً غيّرت في شكل ومضمون المواجهة وخلقت توازن رعب وردع متماثل. قد لا يكون هذا التوازن متماثلاً في حجم الدمار والقتل ولكنّه في كل الأحوال بات امراً واقعاً يتعامل معه كيان العدو على أنّه تهديد كبير وخطير على أمنه واستقراره، لا بل يمكن القول انه شكّل قفزة نحو توصيف التهديد بالوجودي، فالمقاومة الفلسطينية باتت منذ عام 2014 قادرة على استهداف تل ابيب والقدس ومناطق عديدة في فلسطين المحتلة، وهي قدرات تصاعدت وتتصاعد ببعد تراكمي سواء بما يرتبط بالعديد البشري للمقاومة كمّاً ونوعاً، او بما يرتبط بالقدرات العسكرية التسليحية التي تعتمد بشكل أساسي على الصواريخ كسلاح كاسر للتفوق الإسرائيلي .
في الجانب المرتبط بالصواريخ بات مؤكداً ان المقاومة، وبعد حصولها على إمكانيات التصنيع في قطاع غزة، انتقلت الى مرحلة مختلفة تماماً سواء بالنسبة لمدى الصواريخ او بالنسبة لحجم الرؤوس الحربية، إضافة طبعاً الى عدد الصواريخ وخصوصاً منها ما يتجاوز مداها ال 50 كلم، إضافة الى قدر مقبول من الدقة، وهو تطور بات اساسياً في امتلاك المقاومة قدرات إدارة مختلفة للصراع أضافت مرونة عالية في الجانب التفاوضي عندما تدعو الحاجة عبر مفاوضات غير مباشرة ادّت الى وقف العمليات العسكرية اكثر من مرّة، وهو ما أتاح للمقاومة مراكمة قدراتها بعد كل جولة عسكرية وخصوصاً بعد معركتي سيف القدس ووحدة الساحات.
الى جانب قوة الردع التي حققتها الصواريخ بمدياتها المختلفة لا بدّ من الإشارة الى قدرات المقاومة في منع أي توغل بري إسرائيلي.
سنة 2008 توغل جيش الاحتلال في عمق قطاع غزة واقتحم أحياء مدينة غزة الجنوبية والشرقية، وتوغلت دباباته في أحياء: الشجاعية، تل الهوا، الزيتون، وكاد أن يصل إلى مركز المدينة. وعند اندلاع هذه الحرب، لم تكن المقاومة الفلسطينية تحوز القدرات الدفاعية والهجومية التي كان يمكن أن تهدد القوات المتوغلة، وتحديداً شبكة الأنفاق الهجومية والدفاعية، فضلاً عن تواضع ترسانتها الصاروخية في تلك الفترة.
وبرز دور تطور القدرات الدافعية للمقاومة الفلسطينية في ردع الاحتلال عن تبني خيار العمل البري في غزة خلال حروب: 2012 و2014 و2021، والعشرات من جولات التصعيد الذي تفجرت بين هذه الأعوام.
ولعل مواجهة سنة 2014، تُعَدّ مثالاً كلاسيكياً يؤكد تجنب جيش العدو العمليات البرية في غزة، على الرغم من أن هذه الحرب استمرت لأكثر من 50 يوماً، وتُعَدّ ثاني أطول حرب إسرائيلية – عربية بعد حرب 48.
ورغم أن إسرائيل جندت في 2014 الآلاف من قوات الاحتياط، واعتمدت بشكل خاص على ألوية النخبة في سلاح المشاة: جفعاتي، جولاني، المظليين والناحل، ورغم استعانتها بسلاح جوها المتطور، إلا أن جيشها لم يتمكن طوال هذه الحرب من التوغل في عمق القطاع أكثر من مسافة كيلومترين فقط.
وكما قال القائد السابق لسلاح الجو الإسرائيلي، إيتان إلياهو، فإن المقاومة الفلسطينية من خلال استخدامها شبكة الأنفاق الدفاعية والهجومية، قلصت إلى حد كبير من تأثير سلاحي الجو والمدرعات في جيش الاحتلال، وفاقمت المخاطر التي يمكن أن تتعرض لها القوات المتوغلة.
في النتائج استطاعت المقاومة في غزة ان تصبح قوّة تمتلك معادلات توازن الردع والرعب، وهي بلا ادنى شك تبني وبشكل مضطرد معادلات النصر التي لا تزال تحتاج الى مزيد من تراكم القوة، مع اخذها بعين الاعتبار الشرخ المتوسع يوماً بعد يوم في البنى السياسية والمجتمعية لكيان العدو، وكذلك تنامي وتصاعد الفعل المقاوم في الضفة الغربية والذي سيكون عاملاً مساعداً وجوهرياً يوماً بعد يوم.