كتب علي كوثراني | موازنة “الحصار” الحكوميَّة… مَن لها؟
علي كوثراني | كاتب وباحث لبناني
استفزَّت عبارات ميقاتي الكثير من اللبنانيِّين، واستشاطوا غضبًا على “لازم نتحمَّل بعض” و”ما فينا نظل نعطيكم كهرباء وتلفون ببلاش”، وبدأت مسابقة التراشق بالاتِّهامات بين الأطراف حول القبول العلني أو الضمني بهذه الموازنة، وانكبَّت النُخَب على التحليل والتمحيص وإطلاق الاقتراحات والنظريَّات… ولكن ماذا عن السياق؟!
ليس تنزيهًا للميقاتي، وهو عصيٌّ على التنزيه أصلًا، ولكنَّ هذه الموازنة ليست موازنته هو، وإن كان هو الآلة التي حَمَلتها، وليست موازنة غيره في لبنان أصلًا. هذه الموازنة، أوَّلًا وآخرًا، هي الابنة الشرعيَّة للحصار، هي الشقُّ الاقتصادي من شروط الاستسلام لقوى الهيمنة والنهب المغلَّفة بتوصيات صندوق النقد… فما جوابنا على الحصار وموازنته؟
البعض يستسهل الرضوخ طبعًا… و”لَئِن أمِرَ الباطل لقديمًا فعل.” ولكنَّ الرضوخ والقبول بهذه الموازنة، كما هي أو حتَّى مُعدَّلةً، ليس فقط من الكبائر بل هو طريقٌ مسدودٌ أيضًا ولا أمل إلّا بالطريق المعاكس له تمامًا، وذلك لأسبابٍ ثلاثةٍ، أوَّلها أنَّ الموازنة كلَّها مفخَّخةٌ وقاتلةٌ، وثانيها أنَّ أصحابها لا يملكون فرضها بالقوَّة، وثالثها أنَّ البدائل الجديَّة والكريمة في متناول يدنا.
إنَّ كسر هذه الموازنة ومَن وما ورائها هو أساسٌ من أسس كسر الحصار، وهو خطوةٌ لم نعدْ، والحصار في مرحلته المتقدِّمة هذه، نملك ترف التقاعس عنها بحجَّة كسب الوقت لتبيان الأمور، خصوصًا وأنَّ البديل عن صندوق التبعيَّة والمذلَّة والفقر و”الشحادة” موجودٌ اليوم بشروطٍ هي أفضل من شروط الغد.
كلُّ رأيٍ حول هذه الموازنة لا ينطلق من وضعها في سياق الحصار هو رأيٌّ يؤدِّي إلى طمس حقيقة الصراع وطبيعته، وهو مدخلٌ للانغماس في صراعاتٍ ثانويَّةٍ مُنهِكةٍ لا داعي لها الآن، لا سيَّما وأنَّ كلُّ الجهود والطاقات مطلوبةٌ للصراع الأساس: معركة كسر الحصار.
لم يعدْ التعايش مع انطلاق البعض من خطاب فخامة السفيرة عن “الأزمة” الناتجة عن “انعدام الحوكمة الرشيدة” مقبولًا. إنَّه الحصار لا الأزمة. إنَّه القتل العمد لا الإفلاس. إنَّها الهيمنة لا الطبقيَّة ولا التغيير، وليس للهيمنة وحصارها إلَّا التحرُّر وخطابه.
ثبت بالدليل القاطع أنِّ تأخير المواجهة لن يُقلِّل من احتمالات حصولها، ويفترض أنَّه قد ثبت أيضًا أنَّ تأخير المواجهة هو وقوعٌ في كلِّ أفخاخ الهيمنة وأدواتها، الأمر الذي يجعل المواجهة الحتميَّة أكثر كلفةً.
فأن لم تتشكَّل الحكومة، فالمقاومة منعتها، وإن تشكَّلت، فهي حكومتها، وإن احتجَّت المقاومة على إلباسها جريمة المرفأ بالقوَّة وجمَّدت مشاركتها فيها، اتُّهمت بتعطيل مصالح الناس في ظلِّ “الأزمة”، وإن عادت إليها كما فعلت، تُتَّهَم بالقبول الضمني بموازنة الحصار بما تحمله من خنقٍ للناس. فالفراغ فخٌّ، والحكومة فخٌّ، والتجميد فخٌ، والعودة فخٌ، ورفض الموازنة بدون مشروعٍ فخٌّ، والقبول بها فخ…
نعم لاتِّخاذ القرار بالمواجهة الشاملة فورًا. نعم لتعبئة كلِّ الشرائح الاجتماعيَّة المتضرِّرة من الحصار، في لبنان وغيره. نعم لترجمة خطاب التكامل مع الإقليم والتوجُّه شرقًا إلى خطواتٍ عمليَّةٍ. نعم لكسب الوقت، وتفادي كلفة الانتظار، والحفاظ على حظوظنا بالاستقلال الكامل… وكلُّ ما دون ذلك فخ.