عزيز موسى | كاتب وباحث في الشؤون الأمنيّة والدوليّة
عملت الولايات المتحدة الأمريكية منذ أحداث 11 أيلول 2001 على صياغة استراتيجيات سياسية جديدة أقرّها “المحافظون الجدد” بغية إعادة رسم الخرائط الجيوسياسية العالمية وتطبيق مشاريع فوضوية لإغراق الدول المناهضة لأمريكا بأزمات وحروب متتالية بحججّ متعددة، ومن أهم الأهداف تجلّت بتطويق روسيا الاتحاديّة بقواعد عسكرية والعمل على إحداث ثورات ملونة (برتقالية) من شأنها إيصال أنظمة مؤيدة للتوجهات الغربية إلى الحكم، فضلاً عن ضم معظم دول أوروبا الشرقية إلى حلف الناتو بهدف تقويض الأمن الروسي.
استدركت روسيا بقيادة الرئيس فلاديمير بوتين الخطر الغربي المحدق بأمنها الحيوي، وعملت على إعادة هيكلة مؤسساتها العسكرية والاقتصادية لتكون قادرة على مواجهة الغرب، وصولاً إلى الملف النووي الأوكراني الذي بات يفرض تحديّات وجودية وإعادة لاصطفافات القوى الدولية ومداراتها، وهذا ما أكده الفيلسوف والمفكر الروسي الكسندر دوغين مخطط الأوراسية الجديدة في معظم كتاباته، حيث وصف دوغين العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا بأنها “صراع للحضارات بين الشرق والغرب”، بين التقاليد والموروثات الخاصة بكل مجتمع، والليبرالية الحديثة القائمة على فكرة سلخ الفرد عن مجتمعه وتمجيد القيّم الغربية وشرعنتها ضمن قوانين وأعراف، أي أن هذه المواجهة تتعدى مجرد التنافس والصراع السياسي لتشمل الجوانب الاجتماعية والاقتصادية بين أيديولوجيات مختلفة.
جاءت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا لتحقيق عدة أهداف أساسية وهي :
1- نزع السلاح الأوكراني المهدد للأمن القومي الروسي، وخاصة بعد تقارير الاستخبارات الخارجية الروسية بوجود (15 مختبراً) لتطوير أسلحة بيولوجية، ونيّة الولايات المتحدة تطوير أسلحة نووية في أوكرانيا موجّهة ضد روسيا، وهذا ما يمكن الاستدلال عليه خلال خطاب لمديرة الاستخبارات الوطنية الأمريكية أفريل هاينز في جلسة استماع أمام مجلس الشيوخ الأمريكي.
2- إعادة ترتيب البعد الجيوسياسي لروسيا بما يحقق مشروعها الأوراسي بالتعاون مع أصدقائها وحلفائها، وذلك بالانتقال نحو نظام دولي جديد آخر يتم العمل من خلاله على تكريس التعددية القطبية، وإنهاء الهيمنة الأمريكية على للعالم.
3- محاربة النزعات القوميّة المتشددة (النازيّون الجدد)، وخاصة في ظل تغذيّة الغرب للنزعات العنصريّة التي كانت واضحة بانتقاء اللاجئين.
على المستوى الآخر فقد عمدت القوى الغربيّة بالانخراط المباشر والتصعيد ضد موسكو، وهو ما يمثّـل الاستراتيجية الأمريكية التي تهدف لإضعاف الاتحاد الأوروبي وروسيا معاً في ظل الاعتمادات الطاقوية على وجه الخصوص للأولى على الأخيرة وغياب البديل، وهذا ما عكسته تصريحات المسؤولين الأوروبيين إلى ضرورة الابتعاد عن المواجهة المباشرة مع موسكو والقول أن: ” الغرب ارتكب عدة أخطاء في العلاقة مع روسيا بما فيها وعد أوكرانيا بضمها لحلف الناتو” ، فضلاً عن حجم الضرر الاقتصادي الذي لحق كلا الجانبين وخاصة أوروبا في نقص تورديدات النفط والغاز والارتفاع العالمي غير المسبوق لأسعارهما.
هو تغيير في قواعد اللعبة الدوليّة والمواجهة الروسية الغربيّة، حيث استطاع الرئيس فلاديمير بوتين نسج شبكة من العلاقات السياسية والاقتصادية وبناء منظومات طوّعها في اللحظة المؤاتية للعملية العسكرية، والاستفادة من دروس الحروب في كلٍ من ( أفغانستان وسورية وليبيا والقوقاز) بما لا يدع مجالاً للشك ضرورة حماية الأمن القومي الروسي من التهديدات القائمة، فمن المؤكد بأن العالم وطبيعة النظام الدولي بعد العملية العسكرية الروسية والتطورات بين مختلف الفواعل الدولية سيختلف عما سبق لجهة تشكيل عالم متعدد الأقطاب يُنهي حالة الانفراد في الهيمنة.