عزيز موسى | كاتب وباحث في الشؤون الدولية والأمنية
تتصاعدُ حدّة التهديدات والتصريحات التركية بالقيامِ بعمليةٍ عسكريةٍ في شمالِ سورية بعمق 30كم، والتي كان آخرها تصريح أول أمس على لسان وزير الدفاع التركي خلوصي آكار بأن العملية العسكرية قادمة ولكنها ستكون “بغتة” على حد وصفه، هذه التهديدات التي تأتي في إطار خلط أوراق الإقليم وزيادة تعقيدها وتشابكها بهدف تحقيق تركيا لمكاسب من خلال دعم مليشياتها وإرهابيها في الشمال، وترجمتها كورقة تفاوضية على طاولة الحل النهائي السورية تتيحُ لاردوغان على حد تصوُره مكاناً ومكاسب قد تتعاظم، حيثُ أن الأهداف التركيّة الضمنية تتمثل باقتطاع أجزاء من الأراضي السورية وضمها، تحت شعار “حماية الأمن القومي التركي” و “مكافحة الإرهاب” والتي هي لا تشكّل أكثر من حجج واهية في سياق مشاريع العثمانية الجديدة بالتوسّع.
جاءت زيارة وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان إلى دمشق ولقائه بالرئيس بشار الأسد و وزير الخارجية الدكتور فيصل المقداد في محاولة تريدُ إيران من خلالها لعب دور الوساطة بين دمشق وأنقرة، خاصة بعد لقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي في العاصمة التركمانستانية عشق آباد، إضافة لجولة غير مسبوقة قام بها عبد اللهيان في تركيا استمرت لعدة أيام على غير العادة، التقى خلالها بمسؤولين سياسيين وأمنيين أتراك في إشارة لوجود رعاية روسية وتبنٍ إيراني لعملية الوساطة من شأنه تقريب وجهات النظر بين سورية وتركيا، وينزع فتيل التصعيد الخطير الذي قد يؤدي إلى مواجهة مباشرة بين جيشي البلدين، كما أن حديث وزير الخارجية الإيراني “بلمسه أن القيادات التركية باتت تُفضّل الحلول السياسية والدبلوماسية” يأتي في سياق مقاربة إيرانية عقلانية لضرورة حل الملفات العالقة بين الطرفين، بعيداً عن استخدام القوة وانتهاك السيادة في ظلِ وضع إقليمي ودولي متأزّم، إضافة لعدم بقاء دمشق صامتة في وجه أيّ عملية تستلزم الردّ بكافة الوسائل العسكرية وغيرها.
دمشق بدبلوماسيتها المعهودة واستراتيجياتها الخارجية المضبوطة، رحّبت بأي حلّ يحترم سيادة أراضي الدولة السورية ويدفع باتجاه مكافحة الإرهاب والنزعات الانفصالية وإنهاء أي شكل من أشكال الاحتلال، إلّا أن هذا الترحيب لا يخلو من عنصر الشك في النوايا التركية التي لا طالما نكست بوعودها، وقيام اردوغان “باللعب على الحبال” بما يكسبه الوقت، كما أن شكوك الدولة السورية تأتي من منطلق أهمية تحرير كل شبر من الأراضي السورية من شتّى أنواع الاحتلال وهذا ما أكّده الرئيس الدكتور بشار الأسد في مقابلته الأخيرة مع قناة RT الروسية، في حين تحتل تركيا أكثر من 8 آلاف كم مربع من الأراضي السورية، وفرضها لعمليات تتريك واسعة النطاق، ببناء المشافي والمدارس وفرض اللغة التركية ومنهاجها، كذلك التداول بالعملة التركية، وإحداث تغييرات ديمغرافية تخدم مصالحها السياسة.
من جانب آخر يُلاحظ أن اردوغان بات مأزوماً بشكل كبير اليوم وليس بإمكانه الاستمرار بهذه السياسات العدائية نظراً للأوضاع الاقتصادية الداخلية التي تُعاني البلاد منها في الداخل، إضافة لاستثمار المعارضة الضغط من خلال ورقة اللاجئين، والأهم هو قرب موعد الانتخابات الرئاسية التركية في حزيران 2023 في ظل بيئة داخلية غير مستقرة، حيث يعمل اردوغان على إنهاء مشاكله مع دول الإقليم بدءاً من السعودية والزيارات المتبادلة بينه وبين الأمير محمد بن سلمان لاستثمار خزائن وأموال السعودية مروراً بالإمارات.
الوساطة الإيرانية جاءت من منطلق ضرورة البدء بخارطة طريق لحل الخلافات بين دمشق وأنقرة، وأهمية تحرير مناطق الشمال السوري وخاصة تلك التي تسيطر عليها ميليشيا “قسد” المدعومة أميركياً، ولما تقدّمه هذه الوساطة من فرصة لاردوغان لينزل بها عن شجرته برعاية روسية- إيرانية، لذلك من خلال ما سبق يمكن الحديث عن ثلاثة سيناريوهات محتملة وهي:
– السيناريو الأول: يتجسد في قبول اردوغان وقف التهديدات عن القيام بأي عمل عسكري من شأنه إحداث مواجهة مع سورية، وضرورة قبوله بالتقارب وإنهاء ملف الشمال، فضلاً عن تأزّم الرأي العام التركي الداخلي تجاه قضية اللاجئين واستثمار المعارضة للسياسات الفاسلة، وضرورة الاقتناع بأن الأمن القومي التركي لا يُصان ومكافحة الإرهاب لا تتم، إلا من خلال التنسيق مع دمشق، والابتعاد عن أحلام إقامة منطقة آمنة أو فرض حظر جوي.
– السيناريو الثاني: وهو قيام تركيا بقبول هذه الوساطة بشكل مؤقت لاستثمارها بتكتيكات تخدم مصالح اردوغان حتى موعد الانتخابات الرئاسية، والاستفادة من المبادرات الروسية – الإيرانية والتلويح للغرب بأن تركيا قد تقوم بخطواتٍ تنعكس سلباً على أوروبا في حال عدم التجاوب معها، وهذا السيناريو سيشكّل في حصيلته تصعيداً خطيراً لا سيما على المستوى السياسي-الديمغرافي وملف اللاجئين الذي تستخدمهُ تركيا كورقة ضغط تجاه أوروبا.
– السيناريو الثالث: يتجلى بدخول قوات الجيش العربي السوري إلى المناطق التي تسيطر عليها “قسد” بموجب اتفاق، وضرورة إدراك “قسد” أنه ما من ضامن لأمن سورية وسيادتها سوى قوات الجيش السوري، فلا الولايات المتحدة تفي بوعودها وبالتالي تستخدم هذه الميليشيات منذ أكثر من 8 سنوات كورقة ضغط وأداة في وجه الدولة السورية، ستتلاشى عند الوصولِ لأية اتفاقات كبرى على صعيد الإقليم، كما أن المعلومات التي تفيد بدخول 550 عنصراً من عناصر الجيش العربي السوري لمنطقة عين عيسى التي كانت تسيطر عليها “قسد ” ورفع العلم السوري فوق مباني المؤسسات، يُمكن أن تكون خطوة في إطار اتفاق يشمل بقية المناطق واستعادة حقول النفط والغاز، على أن يكون هناك التزامٌ من جانب قيادات “قوات سورية الديمقراطية” وليس التراجع عن الاتفاقات كما حدث في مرّات عديدة سابقة.
ونظراً لتشابك الملفات وتعقيداتها ومدى ترابطها ببعضها البعض، وما يحدث في العالم من تحوّلات، يُنظر بعين الترقّب والحذر نحو أيّة اتفاقات من شأنها إرساء عوامل الاستقرار في سورية، وفي ظلّ قمة روسية-إيرانية-تركية مرتقبة في العاصمة الإيرانية طهران تتناول الملف السوري، يمكن أن تكون كنقطة بداية لتفكيك هذا التشابك بين القوى في الشمال السوري.