شوقي عواضة | كاتب واعلامي لبناني
ثائرٌ مهاجرٌ أسقط كلّ الحدود وحوّل العالم إلى ساحة مواجهة من أجل فلسطين. كان ابن السّبعة عشر عاماً أوّل الرّعيل الذي هشّم صورة الجيش الذي قيل بأنّه لا يُقهر، عرفه العالم باسم مازن وعرفته فرنسا باسم خالد اللّبناني وعرفه أحرار العالم بأنيس النقاش. كان من أوائل المنتسبين لحركة فتح ومن طلائع الفدائيين الذين هزّوا الغرب، تعرفه تلة شلعبون وقرى الشّريط الحدودي المتاخمة لفلسطين المحتلة كما تعرفه دمشق وبغداد وطهران وصنعاء… فهو ذلك الثائرٌ من الزّمنِ العصيِّ ولِدَ من رحمِ بيروتَ المقاومةِ… لبنانيُّ الهويّةِ فلسطينيُّ الهوى امتزجَتْ ثوريّتُهُ بعروبةِ عبدِ النّاصرِ وإسلاميّةِ ثورةِ الإمامِ الخمينيِّ فكانَ أنيس النّقاش الثّائرَ من أجل فلسطينَ. التحقَ بصفوفِ حركةِ فتحٍ عامَ 1968 وتسلّمَ فيها عدّةَ مناصبَ. انضمَّ إلى الكتيبةِ الطّلابيّةِ والعملِ التّنظيميِّ اللّبنانيِّ. تولّى بعضَ المسؤوليّاتِ الأمنيّةِ في الأرضِ المحتلّةِ ولبنانَ وأوروبا، وكانَ له دورٌ هامٌّ في التّنسيقِ بينَ قيادةِ الثّورةِ الفلسطينيّةِ وقيادةِ الثّورةِ الإيرانيّةِ. كانَ أوّلَ من أطلقَ تشكيلاتِ المقاومةِ في جنوبِ لبنانَ بعدَ الاحتلالِ «الاسرائيليِّ» عامَ 1978، عاصرَ أسرارَ وخفايا الحربِ الأهليّةِ اللّبنانيّةِ وكشفَ الكثيرَ منها،
عايشَ كبارَ القادةِ في منظّمةِ التّحريرِ وكانَ مقرّباً جدّاً للشّهيدِ خليل الوزير (أبي جهاد) وعمل بتكليف منه على مواجهة الامبريالية من خلال العمل بالشمولية وتوسيع العلاقات مع الحركات الثّوريّة والتحرّرية وإنشاء حركات وتحالفات مضادة لتلك التّحالفات من خلال دعم ومساعدة أيّة حركة تحرريّة فتعرّف النقاش على الشهيد محمد صالح الحسيني الذي عرّفه على مجموعات إيرانيّة أخرى وعملا سوياً على تبادل الخدمات وتجنيد العديد من الإيرانيين والأتراك بدون تأشيرات للدّخول بمهمات إلى فلسطين المحتلة. وهذا ما حصل وتمّ إنشاء قواعد عسكريّة للتدريب وإقامة دورات سياسيّة وتنظيميّة على مستوى عال. ومعَ بداياتِ انتصارِ الثّورةِ الإسلاميّةِ في إيرانَ كانَ أنيس النّقاش أوّلَ المبادرينَ بل أوّلَ رسلِ المقاومةِ الفلسطينيّةِ للثّورةِ وقيادتِها ولعبَ دوراً أساسيّاً في التّنسيقِ بينهما مواكباً ولادة الحرس الثوري الذي ربطته بمسؤوليه علاقاتٌ متينةٌ لا سيما أنّ انتصار الثّورة الإسلاميّة في إيران شكّل حافزاً كبيراً لدعم المقاومة الفلسطينيّة وللحفاظ على ذلك الانتصار.
كان أنيس النقاش أوّل من استجاب لتنفيذ حكم الإعدام بآخر وزير خارجيّة في عهد الشاه المخلوع محمد رضا بهلوي في فرنسا شاهبور بختيار الذي حاولت الولايات المتحدة الأميركيّة دعمه للقيام بانقلاب على الثّورة الوليدة فكان أنيس النقاش المخطّط والمنفذ والقائد في عملية اغتياله في باريس حيثُ نجا بختيار بأعجوبةٍ وحُكِمَ على نقاش بالسّجنِ المؤبّدِ ليُفرجَ عنه بعفوٍ خاصٍّ من الرّئيسِ فرنسوا ميتران بعدَ عشرِ سنواتٍ قضاها في سجونِ باريسَ. ليعودَ أنيس النقاش إلى لبنانَ عودةَ المنتصرِ الذي لم يغيّرْ من قناعاتِه سجنٌ ولا تهديدٌ مستكملاً دورَهُ الرّياديَّ في تأسيسِ شبكةِ أمانٍ للأبحاثِ والدّراساتِ الاستراتيجيّةِ مواصلاً دعمَ ورفدَ المقاومةِ ومحورِها من فلسطينَ إلى لبنانَ وسورية والعراقِ وإيرانَ واليمنِ والبحرينِ. لم يقتصر دور أنيس النقاش على تلك المجموعات وحسب بل كان له دورٌ بارزٌ في استقطاب وتجنيد العديد من الأوروبيين وتكليفهم بمهامٍ استطلاعيّةٍ وأمنيّةٍ داخل فلسطين المحتلّة.
وكانَ على علاقةٍ بالقياديِّ الكبيرِ وأحدِ مؤسّسي الجبهةِ الشّعبيّةِ لتحريرِ فلسطينَ وديع حدّاد ولعبَ دوراً في العمليّاتِ الخارجيّةِ للمقاومةِ الفلسطينيّةِ لا سيّما في فترةِ السّنواتِ الـخمس الأولى من سبعيناتِ القرنِ المنصرمِ حيثُ نفّذَتْ مجموعةً من العمليّاتِ الخارجيّةِ ومنها خطفُ طائراتِ «العال» الاسرائيليّةِ وطائراتِ «بوينغ» التي تقلُّ «إسرائيليّين»، واستهدافُ السّفاراتِ «الإسرائيليّة» في دولٍ مختلفةٍ، واختطافُ «الاسرائيليّين» من أجلِ المبادلةِ، وعمليّةُ ميونخ عامَ 1972. في العامِ 1975 أوكلَ وديع حدّاد إلى خالد اللّبنانيِّ أيّ أنيس النّقاش عمليّةَ الإشرافِ والتّنفيذِ لعمليّةٍ في فيينا مع إيليش راميريز سانشيز المعروفِ بـكارلوس حينها استيقظَ العالمُ في 21 كانون الأوّل/ ديسمبر على خبرِ اختطافِ 11 وزيراً في مؤتمرِ منظّمةِ «أوبك» النّفطيّةِ بالإضافةِ إلى عشراتِ الحاضرينَ، من قبلِ مجموعةٍ مؤلّفةٍ من ستةِ فدائيينَ بقيادةِ أنيس النّقاش الذي لم تشكّلْ له العمليّةُ إلّا المزيدَ من التحفيزِ للإعدادِ بقوّةٍ أكبرَ لمواجهةِ العدوِّ فعمدَ إلى تشكيلِ مجموعاتٍ وفصائلَ قتاليّةٍ وعسكريّةٍ لبنانيّةٍ حينها تعرّفَ إلى القائدِ العسكريِّ والجهاديِّ الشّهيدِ عماد مغنية الذي جاءَهُ على رأسِ مجموعةٍ من شبابِ الشيّاحِ طالباً التّدريبَ العسكريَّ لمواجهةِ العدوِّ الاسرائيليِّ.
استمرّتِ العلاقةُ وتوطّدَتْ بينَ الرّاحلِ أنيس النّقاش والشّهيدِ عماد مغنية حتّى تاريخِ استشهاده وكانت تربطه علاقات وطيدة بقيادات المقاومة.
رحل أنيس النقاش قبل أن يستكمل الرّواية وقبل أن تلامس عينيه مشارف القدس الحبيبة. رحل أنيس المقاومين وأستاذ الثّائرين واهباً قلبه للقدس ناثراً عشقه الدمشقي على نخيل بغداد وفراتها واهباً ظلّه لطهران مطلقاً عينيه لصنعاء تاركاً إرثاً كبيراً ومنهجيّةً تاريخيّةً وخلاصةَ سبعينَ عاماً من الجهادِ والمقاومةِ تركَتْ بصماتِها في قلوبِ الملايينِ من محبيه وحفرَتْ في ذاكرةِ الأجيالِ القادمةِ مقولتَهُ الأخيرة الانتصارُ سيكونُ أيضاً بحجمِ هذه الهزيمةِ للقوّةِ الكونيّةَ.