رفعت ابراهيم البدوي | مستشار الرئيس سليم الحص
ثمّة خطايا ترتكب في السياسة اللبنانية لن تغفرها محكمة التاريخ نظراً لانعكاساتها المكلفة والتي تصبح مع مرور الزمن بمنزلة جرم وطني كلما تضاعفت تداعياتها وانسحبت على المال والاقتصاد والأمن وغير ذلك من القضايا الوطنية الحساسة.
مما لا شك فيه أن الأخطاء والارتكابات الحاصلة على الساحة السياسية اللبنانية كثيرة، وفي ذلك حدّث ولا حرج، بيد أن الخطأ الذي يرتكب باسم السياسة التفاوضية مع العدو الصهيوني لترسيم حدود لبنان البحرية مع فلسطين المحتلة يرتقي لمستوى الخطيئة الكبرى بحق الوطن والأجيال اللبنانية والتي لن يغفرها التاريخ.
إن التاريخ هو قاض عادل لم تمسسه لعنة الفساد أو الرشوة، وكم مفيد العودة بالتاريخ إلى زمن رجال حكموا لبنان بعزة وكرامة وطنية عالية فكان التاريخ شاهداً وخير منصف لمواقفهم الوطنية المشرفة بعدما دافعوا عن حق الوطن وعن كل شبر من حدوده بضمير وطني خالص من دون أن تصيبهم لوثة الفساد والمساومة على حقوق الوطن والأجيال.
في العام 2000 وبعهد فخامة الرئيس إميل لحود وحكومة الرئيس سليم الحص، حصل انسحاب جيش العدو الإسرائيلي من معظم جنوب لبنان، وعلى الفور اجتمع مجلس الأمن للتصويت على صحة إتمام الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان وتطبيق القرار الأممي رقم 425.
بيد أن رئيس الجمهورية اللبنانية آنذاك العماد إميل لحود، كان له كلام آخر ورفض الاعتراف بالقرار الأممي وصمم على انتزاع حق لبنان بالكامل من حدوده البرية مع فلسطين المحتلة بعدما أكد له رئيس الوفد العسكري إلى الجنوب اللبناني العميد أمين حطيط وجود 18 مليون متر مربع لم تزل تحت الاحتلال الإسرائيلي.
خلال اجتماع مجلس الأمن، أجرت وزيرة الخارجية الأميركية آنذاك مادلين أولبرايت، اتصالاً هاتفياً بالرئيس إميل لحود الذي كان بطريق عودته إلى قصر بعبدا، فتوقف موكب الرئاسة إلى جانب الطريق تجنباً لانقطاع الاتصال الذي استمر خمس ساعات متواصلة.
في هذا الاتصال حاولت أولبرايت ثني الرئيس لحود عن معارضته للقرار الأممي ودفعه لإعطاء مندوب لبنان في ذاك الوقت، السفير عبد الله بوحبيب، الإذن بوضع ورقة بيضاء بدل الاعتراض، وللمصادفة فإن السفير عبد الله بوحبيب، أصبح اليوم وزيراً للخارجية في الحكومة اللبنانية الراهنة، وهو نفسه صرح بأن «الخط البحري 29 الذي يضمن حق لبنان واللبنانيين ما بيفيدنا ونحنا بدنا ناكل العنب»!
الرئيس إميل لحود رفض محاولات أولبرايت وصمم على وجوب تحرير كامل التراب اللبناني من الاحتلال الإسرائيلي، عندها حاولت أولبرايت ابتزاز لبنان إعلامياً وتوجهت للرئيس لحود بالقول يمكنكم التصريح بالإعلام ما شئتم لكن عليكم الموافقة على قرار إتمام الانسحاب الإسرائيلي.
الرئيس إميل لحود ومن سيارته المتوقفة إلى جانب الطريق، خاطب أولبرايت بلغة الكرامة الوطنية والمؤتمن على حق لبنان بالقول: سيدة أولبرايت إن ما تطلبينه يندرج في خانة الخيانة العظمى بحق وطني لبنان لأن 18 مليون متر مربع ليست من حقي الشخصي، بل تلك الأرض هي حق لبنان والأجيال ولن أفرط بشبر واحد من حق الوطن مهما كانت الضغوط.
الرئيس إميل لحود بقي صلباً شامخاً متمسكاً بحق لبنان ولم تجد كل محاولات أولبرايت سبيلاً لإقناعه بالعدول عن موقفه، وبعد مضي خمس ساعات على المكالمة الهاتفية استنفدت فيها كل ما في جعبتها الدبلوماسية وتغيرت لهجتها، وفجأة لجأت إلى لغة التهديد وقالت: «مستر لحود (وليس سيادة الرئيس) هل تعلم أنك تخاطب وزيرة خارجية الولايات المتحدة الأميركية»؟ فما كان من الرئيس لحود أن رد عليها وبعنفوان الكرامة الوطنية، وهل تعلمين أنك تخاطبين رئيس الجمهورية اللبنانية! وما لبث أن بادر إلى إنهاء المكالمة وإقفال الهاتف بوجه وزيرة خارجية أميركا.
صوّت مجلس الأمن وبموافقة روسيا والصين لمصلحة إقرار الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان، داعياً الحكومة اللبنانية لإرسال الجيش إلى منطقة الحدود مع فلسطين المحتلة، معتبراً أن القرار 425 قد تم تنفيذه من العدو الصهيوني.
لكن الرئيس إميل لحود ورئيس الحكومة سليم الحص، رفضا الاعتراف بتنفيذ القرار 425 قبل إتمام الانسحاب الإسرائيلي من كامل الحدود، وإجراء ترسيم تقني يحفظ حق لبنان بدءاً من نقطة رأس الناقورة حتى مزارع شبعا وتلال كفرشوبا ومن ضمنها استعادة 18 مليون متر مربع من براثن الاحتلال الإسرائيلي.
بقي الرئيس لحود متمسكاً بحق لبنان رافضاً إرسال الجيش إلى الجنوب، الأمر الذي جعل المقاومة اللبنانية في مواجهة مباشرة مع جيش العدو الصهيوني الذي أوقف دورياته ولجأ للاختباء وراء جدر إسمنتية.
لم يمض سوى شهرين ونزولاً عند رغبة حكومة العدو الصهيوني وصل مساعد وزير الخارجية الأميركية إدوارد ووكر إلى بيروت وطلب موعداً مستعجلاً مع الرئيس إميل لحود الذي أصر على إجراء اللقاء في المقر الصيفي للرئاسة الكائن في بيت الدين.
حضر إدوارد ووكر والوفد الأميركي المرافق إلى بيت الدين محملاً بخوف انكشاف جيش العدو الإسرائيلي أمام رجال المقاومة، وكان في جعبته ما توقعه الرئيس لحود الذي كسب الرهان جراء تشبثه بموقفه المدافع عن حق الوطن النابع من ضمير وطني خالص.
إدوارد ووكر أبلغ الرئيس إميل لحود بصوابية حق لبنان وأقر بأن أميركا كانت على خطأ، وأن الإدارة الأميركية قررت تصحيح الخطأ وإعادة 18 مليون متر مربع إلى السيادة اللبنانية في حدث يعتبر الأول في تاريخ مجلس الأمن وفي تاريخ الولايات المتحدة الأميركية.
هكذا التزم الرئيس إميل لحود بالقسم الرئاسي وبقي مؤمناً بصوابية موقفه مدافعاً وبإخلاص نادر عن حق لبنان، متعالياً عن أي مصالح شخصية، وانبرى لمواجهة العالم ولم يساوم ولم يبدل تبديلا، ونجح بانتزاع حق لبنان من براثن الاحتلال الإسرائيلي ومن الابتزاز الأميركي مثبتاً بذلك المعادلة الذهبية المتمثلة بالجيش والشعب والمقاومة.
إن اللغط الحاصل اليوم حول ترسيم الحدود البحرية للبنان بين خطي 23 أو 29 هو نتيجة تغول الفساد السياسي والمالي لدى معظم الطبقة السياسية التي حكمت في حقبة الرئيس ميشال سليمان، وما تلاه وصولاً إلى يومنا هذا، أولئك الذين ساوموا الوسيط الأميركي فريدريك هوف على حدود لبنان البرية والبحرية، واليوم تراهم يتواطؤون مع الوسيط الجديد غير النزيه آموس هوكشتاين، على إهدار حق لبنان في الخط 29، وذلك طمعاً في تحقيق مكاسب شخصية على حساب الوطن والأجيال.
إن مواقف الرئيس إميل لحود الوطنية البعيدة عن أي خطأ أو فساد أو مصلحة شخصية والمنيعة عن أي مساومة على حقوق لبنان، لهي مواقف ستبقى مسجلة في صفحات التاريخ بأحرف من ذهب.
بين الخطأ والخطيئة بون شاسع، فالخطأ يمكن إصلاحه إذا صفت النيات، أما المساومة على حق لبنان وهدر الثروة الوطنية، فهي الخطيئة التي لن تغفرها الأجيال وستلقى لعنة التاريخ.