رفعت ابراهيم البدوي | رئيس ندوة العمل الوطني في لبنان
شهد الموقف الرسمي التركي من الأزمة السورية في الآونة الأخيرة متغيرات عدة، تزامنت مع انكفاء الاهتمام الأميركي بالمنطقة، لتحتل التطورات الناجمة عن الحرب الروسية في أوكرانيا، ومواجهة التضخم المالي الحاصل في أميركا وأوروبا، سلم أولويات الإدارة الأميركية.
المتغيرات التركية جاءت على شكل استدارة معكوسة عن الاتجاه الذي كان متبعاً مع سورية منذ بداية أزمتها، وذلك استجابة لضغوط متكررة، تقدمت بها شخصيات تركية وازنة موالية ومعارضة، طالبت الحكومة التركية بضرورة تغيير سياساتها المتبعة تجاه سورية، والمبادرة لفتح حوار مع السلطات السورية، بالنظر إلى أن الطرفين تجمعهما مصلحة محورية واحدة وهي وأد مشاريع الانفصال والتقسيم في سورية وتركيا إضافة إلى العراق وإيران.
دقت أنقرة باب دمشق، طالبة التعاون الأمني في مجال الحرب على التنظيمات الإرهابية وبعد تريث ودراسة متأنية، أبدت دمشق ليونة معينة في مجال التعاون الاستخباري لمحاربة الإرهاب تماشياً مع مصالح سورية الوطنية، التعاون أفضى إلى حصول اجتماع لوزراء دفاع البلدين في موسكو وصف بالإيجابي، جرى خلاله وضع اللمسات الميدانية، للبدء في اختبار النيات التركية على أرض الواقع.
مؤخراً، ومع اقتراب الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في تركيا، أصبح ملف النزوح السوري، من أهم المؤثرات والأوراق الانتخابية الضاغطة، لابتزاز حزب الرئيس رجب أردوغان الحاكم عبر المعارضة التقليدية، ما دفع الحكومة التركية إلى تعديل تعاملها مع ملف النازحين السوريين، والإعلان عن مشروع لإعادة اللاجئين إلى شمال سورية، ما يعني حدوث تغيير ملموس في السلوك التركي، حيال الملف السوري المعقد، وذلك ثمرة تعاون بين الطرفين ولو بالوساطة.
مع هذا التعاون، بدأت تصريحات بعض المسؤولين الأتراك في دوائر القرار، إضافة إلى الأوساط الإعلامية والبحثية والسياسية في أنقرة، والقريبة من حزب العدالة والتنمية الحاكم، تدفع أنقرة باتجاه التقرب من دمشق، وتفعيل التنسيق معها لمكافحة التنظيمات الإرهابية الانفصالية، والبدء بتنفيذ عودة اللاجئين السوريين إلى وطنهم، مع تغيّر ملحوظ في التصريحات الرسمية، والخطاب الإعلامي التركي، تجاه الحكم في سورية، كما لوحظ تراجع الحديث عن قيام تركيا بعملية عسكرية برية في الشمال السوري.
في أثناء عودته من قمة سوتشي الأخيرة التي جمعته مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، كان لافتاً تحوّل موقف الرئيس التركي رجب أردوغان، بالحديث لأول مرة عن إمكانية رفع مستوى التواصل وتبادل المعلومات الاستخباراتية مع سورية للمستوى السياسي، مضيفاً: إن الرئيس الروسي بوتين أشار وبوضوح إلى مثل هذا الأمر خلال قمة سوتشي، وإنه أي أردوغان، توّاق للقاء الرئيس بشار الأسد.
المؤكد أن طلب الحليف الروسي من أردوغان جرى بحثه مسبقاً مع الجانب السوري، الذي أبدى إيجابية محدودة بعد الحصول على ضمانات روسية، توّجت بلقاء ثلاثي، ضم وزراء دفاع كل من روسيا وسورية وتركيا في موسكو الشهر الفائت.
بيان وزارة الدفاع السورية، أفاد أن اللقاء في موسكو كان إيجابياً، وبحث ملفات عديدة، وأوردت وكالة سانا أن الجانبين ناقشا جهود مكافحة الإرهاب ومسألة اللاجئين، وأنهما بوجود الوسيط الروسي، أكدا أهمية استمرار الحوار المشترك، من أجل استقرار الوضع في سورية والمنطقة.
وزارة الدفاع التركية أصدرت بدورها بياناً وصفت فيه اللقاء في موسكو بـ«البناء»، وقال الوزير خلوصي أكار إنه نقل لنظيره السوري، موقف بلاده المتمثل باحترام وحدة أراضي سورية، وضرورة بسط سيادتها والحفاظ على استقلالها، مع حصرية وجود قواتها العسكرية بمواجهة المنظمات الإرهابية.
في غضون ذلك شهدت دمشق زحمة زيارات لشخصيات رسمية، افتتحها وزير الخارجية الإماراتي عبدالله بن زايد، الذي استقبله الرئيس بشار الأسد بحفاوة وأجرى معه مباحثات وصفت بالمهمة.
سال حبر الأقلام الصحفية والتحليلات الصحفية الإعلامية التركية، لتؤكد قرب موعد اللقاء بين وزيري خارجية تركيا وسورية، منهم من جزم أن اللقاء سيحصل في منتصف الشهر الحالي في موسكو، ومنهم من أكد أن أبو ظبي حصلت على موافقة سورية لحصول الاجتماع فيها، خلال منتصف شهر شباط القادم.
البعض انتقد حصول التقارب السوري التركي، والبعض الآخر رفض الفكرة من أساسها، معتبراً أن تركيا دولة محتلة للأرض السورية، ورأس حربة في مشروع إسقاط سورية، وسفك دماء الشعب السوري، كما أنها شجعت على ارتكاب المجازر والتهجير بحق السوريين.
ضج المجتمع السوري المثقل بجراح عميقة، وبأزمة اقتصادية حادة وتراجع غير مسبوق في سعر صرف الليرة السورية، وشح ملحوظ للمحروقات والأدوية، وسرت على الألسن أسئلة، هل يفيدنا هذا التقارب السوري التركي المنتظر؟ هل يشكل باب الفرج وانتشال السوريين من الأزمة الخانقة، وأسئلة كثيرة غيرها.
يوم الخميس الماضي وصل المبعوث الروسي الخاص ألكسندر لاڤرانتييف إلى دمشق، وعقد اجتماعاً مهماً مع الرئيس السوري بشار الأسد.
لافرنتييف شدد عقب لقائه الرئيس الأسد، ضرورة استثمار التطورات المتسارعة في العالم، مشيراً إلى أن بلاده تقيِّم إيجابياً اللقاء الثلاثي الذي جمع وزراء دفاع سورية وتركيا وروسيا، وترى أهمية متابعة هذه اللقاءات وتطويرها على مستوى وزراء الخارجية.
وهنا يأتي فصل الكلام، حيث صرح الرئيس بشار الأسد بعد اجتماعه مع لافرنتييڤ قائلاً: إن هذه اللقاءات حتى تكون مثمرة، فإنها يجب أن تبنى على تنسيق وتخطيط مسبق بين سورية وروسيا، من أجل الوصول إلى الأهداف والنتائج الملموسة التي تريدها سورية من هذه اللقاءات، انطلاقاً من الثوابت والمبادئ الوطنية للدولة والشعب السوري، المبنية على وقف دعم الإرهاب وإنهاء الاحتلال التركي، مضيفاً: إن سورية غير معنية بتصريحات إعلامية ولا بإعطاء جوائز انتخابية لأي كان.
وصول وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان إلى دمشق، قادماً من لبنان واجتماعه مع الرئيس بشار الأسد، أكد المؤكد، حيث شدد عبد اللهيان على أن بلاده لديها ثقة كاملة بالمواقف والقرارات السورية، وهي ترى أن أي حوار بين سورية وتركيا إذا كان جاداً ومنتجاً فهو خطوة إيجابية لمصلحة البلدين والمنطقة.
من جهته الرئيس بشار الأسد، وبعد لقائه وزير الخارجية الإيراني وحسب ما جاء بالبيان الرسمي، قال: إن الدولة السورية تنطلق دائماً في كل مواقفها من حرصها على السيادة الوطنية وعلى مصالح الشعب السوري، وإنها لن تسير إلى الأمام في هذه الحوارات إلا إذا كان هدفها وقف دعم التنظيمات الإرهابية، وإنهاء الاحتلال بكل أشكاله.
نخلص للقول: إن القيادة الحكيمة في سورية لن تنجر إلى سجالات إعلامية، ولن تنبهر بتصريحات صادرة عن شخصيات سياسية من هنا أو هناك، وأن ما تطالب به القيادة السورية، لا يعتبر شروطاً مسبقة، بل إنها ثوابت وطنية تنطلق من مبدأ الدفاع المنطقي عن وحدة الأرض السورية، وتحريرها من أي احتلال، مع الحفاظ على السيادة الوطنية الضامنة لمصلحة الشعب السوري، وهو ما يشكل فصل الكلام.