رفعت ابراهيم البدوي | رئيس ندوة العمل الوطني
قرار وزارة الدفاع الروسية الانسحاب من مدينة خيرسون، وضع الحرب الروسية الأوكرانية عند منعطف بدا في توقيته ودوافعه، لغزاً يحتمل التأويل والتفسير والتخمين، تاركاً أبواب الاجتهاد العسكري والسياسي مشرعة.
اللافت أن القرار الروسي بالانسحاب من خيرسون، أتى بعد أقل من أربعين يوماً على توقيع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على وثيقة ضم أقاليم لوغانسك ودونيستك وخيرسون وزاباروجيا إلى روسيا، وذلك في احتفال كبير أقيم في الكرملين، حضره حكام الأقاليم الأربعة، ألقى خلاله بوتين خطاباً تاريخياً قال فيه: «على سلطات كييف وأسيادها في الغرب أن يسمعوني جيداً، أريد أن يتذكر الجميع أن الناس الذين يعيشون في لوغانسك ودونيتسك وزاباروجيا وخيرسون سيكونون مواطنينا إلى الأبد وأن قرار انضمام سكان المناطق الأربع قد صدر وروسيا ستكون وفيّة لهذا القرار».
إن أي قرار يوضع في خانة الأمن الإستراتيجي لأي بلد في العالم تتبناه وتنفذه القيادة السياسية والعسكرية فيه، ثم لا تلبث القيادة نفسها التراجع عنه، لابد أن يترك آثاراً سلبية على الداخل وعلى مستوى القيادات السياسية والعسكرية بحد ذاتها، فما بالك بقرار روسيا التخلي عن منطقة خيرسون وسكانها بعدما اعتبروا مواطنين روساً.
سال حبر المراقبين والمحللين لتفسير وتبرير الخطوة الروسية في مقالات مطولة، واحتل خبراء الأمور العسكرية شاشات التلفزة العالمية والمحلية، كل يدلي بدلوه وحسب تقديرات ومعلومات وتنبؤات، اختلفت فيها وجهات النظر، فتراوحت بين الإقرار بانهزام الجيش الروسي أمام صمود الجيش الأوكراني، وبين تفسير الانسحاب بالخطوة العسكرية التكتيكية المدروسة، من شأنها حماية الجنود الروس من خطر نسف جسور الإمداد عبر نهر دنيبرو، ولمنع حدوث اختراق ومحاصرة الجيش الروسي الموجود في الضفة الثانية، ولكن رغم كل الاجتهادات، بقي لغز الانسحاب الروسي ملكاً للكرملين وحده.
لن ندخل في عملية التصويب والتبرير أو التفسير للخطوة الروسية، لكن علينا المكاشفة والاعتراف بمرارة القرار الروسي، لأنه شكل خسارة معنوية جسيمة للداخل الروسي، كما لكل الحلفاء الذين اعتبروا أنفسهم شركاء في الحرب الروسية ليس على أوكرانيا فحسب، بل على غرب ظالم أحكم سطوته على العالم من خلال نظام أحادي استشرس في تقسيم الدول، والسطو على ثرواتها وأوغل في تفتيت المجتمعات المناهضة لهذا النظام.
هنا ومن منطلق الحليف لروسيا لا بد لنا من مكاشفة صادقة وحقيقية تقودنا للاعتراف، بأن إخفاقاً ما قد حصل على مستوى الإعداد والتخطيط إضافة إلى الرصد والاستخبارات العسكرية الروسية، وأن التقديرات والخطط التي وضعت لخوض حرب خاطفة وحاسمة ضد أوكرانيا، كانت متسرعة إن لم نقل خاطئة وهذا ما يفسر الخسائر غير المتوقعة التي مني بها الجيش الروسي.
الأوكرانيون وحلفاؤهم الغربيون اعتبروا الانسحاب العسكري الروسي من خيرسون نصراً كبيراً، ولحظة تحولٍ تاريخية في الحرب، وتأكيداً على صوابية القرار الأميركي بمساندة كييف منذ اللحظة الأولى للحرب في مواجهة الهجوم الروسي، أما الإعلام الأميركي والغربي فقد أخذ يهلل لنتائج الدعم الأميركي الذي ترجم بالانسحاب الروسي من خيرسون.
أما في السياسية تحديداً فيرى بعض المحللين الإستراتيجيين، أنه لا يمكن فصل قرار الانسحاب الروسي عن تزايد الحديث في واشنطن، عن تفاوض أميركي روسي يجري عبر القنوات الخلفية، وذاك لإيجاد تسوية سياسية للنزاع الأوكراني، ولابد من الإشارة إلى ضغوط مارستها إدارة الرئيس جو بايدن على الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، كي يتخلى عن شرط تنحي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، كشرط مسبق للشروع في مفاوضات مع موسكو.
بعد ضرب معظم البنية التحتية في كييف ومحيطها بات زيلينسكي لا يملك إلا التجاوب مع الطلب الأميركي الذي نقله إليه، مستشار الأمن القومي جيك سوليفان وفق مجلة «بوليتيكو» الأميركية، وهو الذي زار كييف الأسبوع الماضي، وليس صدفة أن الزيارة أتت عقب كشف كل من واشنطن وموسكو في وقت واحد، عن اتصالات أجراها سوليفان مع كبار المستشارين لبوتين في الأسابيع الأخيرة، بهدف خفض في حدة التصعيد لجهة التهديدات النووية وخصوصاً بعد تكاثر الحديث عن امتلاك أوكرانيا للقنبلة القذرة وذلك تجنباً لصدامات غير محسوبة بين أكبر قوتين نوويتين في العالم.
إن الانسحاب الروسي أتى بعد إعلان صريح للرئيس الأميركي جو بايدن مفاده، أن أميركا لا يمكنها التجاوب الكلي مع كل الطلبات الأوكرانية في ما يتعلق بالتسليح، وتحديداً بإرسال مقاتلات «إف-16» أو صواريخ بعيدة المدى قادرة على ضرب أهداف في العمق الروسي، لأن ذلك من شأنه زيادة احتمال حرب عالمية ثالثة وهذا ما لا نريده، ولأن إستراتجيتنا هناك استندت منذ البداية إلى احتواء الهجوم الروسي وليس نقل الحرب إلى الداخل الروسي، حسب ما نقلته صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية.
لم يعد خافيا تعرض جو بايدن شخصياً لضغوط متزايدة من الديمقراطيين والجمهوريين على حد سواء، وذلك لفتح آفاق التسوية السياسية في أوكرانيا، بالتوازي مع المساعدات العسكرية والاقتصادية الأميركية المتواصلة لكييف، وفي هذا الصدد ذكرت صحيفة «الواشنطن بوست» القريبة من مركز القرار الأميركي أن 30 عضواً في اللجنة التقدمية التابعة للحزب الديمقراطي في مجلس النواب، بعثوا برسالة إلى جو بايدن طالبوه فيها بضرورة فتح حوار مع روسيا، وضرورة اتخاذ خطوات ملموسة من شأنها إحداث تغيير دراماتيكي حيال الحرب في أوكرانيا.
من المؤكد أن الحرب لم ترهق روسيا وأوكرانيا وحدهما، بل إن الأزمات الاقتصادية الناشئة عنها وتحديداً على صعيد أسعار الطاقة والغذاء والتضخم في أسواق المال العالمية، هي الأخرى تهدد بزعزعة الاستقرار في دول كثيرة وفي مقدمها أوروبا، ومثال ذلك فإن حكومة بريطانيا برئاسة ليز تراس لم تُعمّر أكثر من 44 يوماً، وهناك شبه فرقة سياسية بين ألمانيا وفرنسا، الأمر الذي يهدد وحدة الاتحاد الأوروبي.
وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر، وفي محاضرة حوارية معه أجريت الأسبوع المنصرم، مع بعض المسؤولين عن مراكز القرار والدراسات الأميركية، انتقد ما سماه شيطنة أميركا والغرب لبوتين، مندداً بشخصنة الصراع مع روسيا واختزاله في شخص الرئيس الروسي، كما أن كيسنجر انتقد محاولات الولايات المتحدة ضم أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي، ودعا إلى التفاوض مع روسيا والاعتراف بحقوقها التاريخية في أوكرانيا.
بعض الخبراء اعتبر أن لغز الانسحاب الروسي من خيرسون يكمن بفتح باب التسوية بين الأميركي والروسي حول أوكرانيا في خطوة روسية محسوبة وبدقة متناهية.
أما البعض الآخر فاعتبر الخطوة الروسية تهدف إلى زرع لغم روسي بوجه الغرب تحضيراً لحرب طويلة قد تمتد لسنوات.