كتب رفعت البدوي | أمة بين الأمم
رفعت ابراهيم البدوي | مستشار الرئيس سليم الحص
بعد أكثر من سبعين عاماً على تأسيسها، لم تستطع منظمة الأمم المتحدة ولا مجلس الأمن الدولي، التحرر من السطوة الأميركية، ولم تسع المنظمة لتكون مرجعية أممية موثوقة، كموئل صالح يلتزم مبدأ المساواة في تنفيذ القانون الدولي، لترجمة المبادئ الأساسية التي انشئت لأجل تحقيقها، وهي حفظ السلم والأمن الدوليين، وإنماء العلاقات الودية بين الأمم، والتعاون على فض النزاعات الدولية، وتعزيز احترام حقوق الإنسان.
وإذا ما راجعنا سجل إنجازات الأمم المتحدة، لوجدنا أنها مطابقة لإنجازات عصبة الأمم، قبل إعلان إخفاقها بالمهمة المنوطة إليها، واستبدالها بما يسمى اليوم منظمة الأمم المتحدة، فلا اتّحدت الأمم، ولا فُضّت النزاعات الدولية، ولا حلّ السلام والأمن الدوليان، ولم يتطور الإنماء بين الأمم، ولم يصار إلى تحقيق العدل الذي يؤمّن مصالح الشعوب المستضعفة، ولم تُحترم حقوق الإنسان على وجه البسيطة، وخصوصاً في منطقتنا العربية، التي تعاني من احتلال إسرائيلي لأراضينا، ومن تجاوزات واستنسابية فاضحة في تطبيق الشرعة الدولية، من خلال التصويت الأممي على مشاريع لا تخدم إلا المصالح الأميركية الصهيونية والغربية، تارة بالترغيب، وتارة بالترهيب، ولو عبر تزوير الحقائق.
إن سطوة الإدارات الأميركية والغربية المتعاقبة جعلت من منظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، أداة طيّعة ومجيّرة بالكامل لخدمة المصالح الأميركية الغربية، الآيلة إلى زرع الفتن وزعزعة أمن دولنا، وافتعال الحروب العرقية والمذهبية، الهادفة إلى تدمير الثقافات المتنوعة، وطمس حضارات وتاريخ الشعوب والأوطان، والسعي إلى نشر ثقافة الفساد وشراء الذمم، من خلال تعيين رؤساء دول ومسؤولين برتبة نواطير، يعملون ضد أوطانهم وشعوبهم، تراهم دمى مرتهنة لمصلحة أميركا والغرب، متخصصين في نهب الثروات والأموال العامة للدولة، وإيداعها في مصارف أميركية غربية.
هكذا يختبئ الغرب وأميركا خلف متراس محصن بالقوانين الزائفة، اسمه الأمم المتحدة أو مجلس الأمن، من أجل إخفاء كل الممارسات الغربية اللا أخلاقية واللا إنسانية، من جرائم القتل والاغتيالات المروعة، ونهب ثرواتنا، واتباع سياسة تجويع شعبنا العربي الرافض للإملاءات الأميركية، في كل من العراق وسورية وفلسطين ولبنان واليمن ومنع المساعدات الطبية والإنسانية والغذائية بهدف خطف حريتهم في تقرير مصيرهم وإجبارهم على الإذعان للإرادة الأميركية الغربية.
الصلف والتظلم الأميركي الغربي بحق بلادنا العربية بلغ ذروته، جاعلاً من الفساد والظلم ثقافة مستشرية في شتى المجالات، فغابت الإنسانية والأخلاق والقيم، حتى إن المواطن العربي، فقد الأمل بأي مستقبل واعد، وصارت الحياة في الوطن العربي، أشبه بشريعة الغاب، وفيها يصبح الضعيف فريسة سهلة للقوي، وبات المواطن يسأل لماذا الغرب متقدم علينا؟ لماذا يعيش الغرب بمأمن؟ لماذا يمتلك الغرب مستقبلاً واعداً ومسؤولاً؟ على حين الجهل والتخلف والضياع تتحكم بأوطاننا وبمصيرنا.
ربما من يسأل لماذا نقف إلى جانب روسيا في حربها على حكومة كييف؟ وهنا يهمنا التوضيح بأننا لسنا من أنصار الحروب، وخصوصاً بعدما اكتوينا بنارها، ودمرت أوطاننا العربية، وهجرت شبابنا، وضاع مستقبل أجيالنا، وكل هذا نتاج مؤامرة أميركية غربية عن سابق تصور وتصميم، والهدف منها منع بلادنا من النمو والاكتفاء الذاتي، ومنع شبابنا من الحصول على علم المعرفة، وإبقاء بلادنا في حال من التخلف والاقتتال المستمر.
ليس بيننا من يفرح بإراقة الدماء في أوكرانيا، أو باندثار القيم الإنسانية بين البشر، إن ما يجري بين روسيا وحكومة كييف هو محاكمة تاريخية للصلف الغربي، والتمييز العنصري المتبع، وكسر لسطوة الأحادية الأميركية الغربية، التي لحقت بشعوب العالم المستضعفة، بعدما أوغلوا في كذبهم وغيّهم وظلمهم، عبر ماكينة إعلامية دعائية، تروج لأكاذيبهم التي اعتادت تزوير الحقائق، وتشريع الجرائم، وجعلها دفاعاً عن النفس، بحجة ضمان الأمن القومي لأميركا ولأوروبا، بينما دفاعنا عن أوطاننا وقيمنا وثقافتنا وحضارتنا وثروات بلادنا وسعينا إلى تحرير أرضنا من احتلال العدو الإسرائيلي، هو بنظرهم إرهاب مستنكر.
وبحجة نشر قيم العدالة والحرية والديمقراطية، والمحافظة على حقوق المرأة وحقوق الإنسان، وتحت تلك الشعارات الزائفة، التي تدغدغ مشاعر شبابنا، استطاع الغرب غزو عقول ضعفاء النفوس والفقراء، مصحوباً ببعض المساعدات المادية، وشحنات الأغذية، لكن القضية مع روسيا لأمر مختلف جداً، فالغرب لن يجرؤ على ممارسة الأدوار ذاتها التي مارسها في العراق أو أفغانستان وليبيا وسورية ولبنان، لأن روسيا دولة تعرف كيف تفكك المؤامرات، وتمتلك أكبر ترسانة عسكرية، والأهم أن روسيا ملتزمة بالشرعة الدولية، وبالقيم الإنسانية وبالحضارة وبثقافة الأجداد، ولأن روسيا، هي التي حمت كرامة أوروبا وثقافاتها المتنوعة، حين سعى هتلر إلى تدميرها والاستفراد بحكم أوروبا والعالم.
من يعتقد أن الأحداث الجارية بين روسيا وحكومة كييف، مجرد حرب عسكرية، فهو مخطىء، لأن ما يجري هو صراع حضارات وثقافات، حضارة تعودت أن تفرض منتجاتها القذرة على العالم بالقوة، وحضارة أخرى تتعاطى مع العالم في إطار الشراكة، التي تحترم الشرعة الدولية ومصالح الشعوب، وحسب ما نصت عليه الاتفاقات والقوانين، أنها حضارة ليس لها ماض استعماري، مثل فرنسا وبريطانيا، ولم تسطو على ثروات الشعوب، ولم تمارس القتل والتصفية بحق من أراد تحرير بلاده.
وقفنا إلى جانب روسيا في حربها ضد حكومة كييف، ليس لأن روسيا قوة عظمى، أو لأنها أرثوذوكسية، أو سنية، أو شيعية، بل لأنها تتحدث باسم المظلومين والمقهورين من سياسات أميركية غربية في هذا العالم وتقاتل باسمهم، ولأن روسيا تفرض إيقاعها القوي، بعد محاولات أميركية غربية مشتركة لكسر النفوذ الروسي لاستمرار الاستفراد الأميركي الغربي بحكم العالم.
روسيا بما أقدمت عليه تقول للغرب كله، كفى هيمنة وسطوة أميركية وغربية، كفى تهديداً لأمننا واقتصادنا، كفى سرقة لثروات البشر، كفى مهانة الشعوب وإبادتهم واسترخاص دمائهم، كفى فساداً وتجاوزاً للقوانين وللأعراف الدولية، كفى للتمييز العنصري على أساس لون البشرة أو على أساس الدين أو العرق، كفى لاستعباد الشعوب.
روسيا بدفاعها عن أمنها القومي، أصدرت حكم المحكمة التاريخية، القاضي بإنهاء الحضارة والثقافة الغربية، القائمة على الغطرسة والاستعمار والاستعباد واحتلال إرادة الشعوب، وشرعت الأبواب لاستعادة الصين لجزيرة تايوان، وأطلقت الصفارة للبدء بانتفاضة فلسطينية ضد الظلم والاحتلال والتوسع الاستيطاني الصهيوني، ولرفض التهجير القسري وهدم بيوت الفلسطينيين، منعاً لتهويد القدس، إنها الفرصة الثمينة، لأن نكون أمة عربية بين الأمم.
روسيا أيقنت تهديد الغرب لأمنها انطلاقاً من أوكرانيا، فانبرت لإجراء عمليتها العسكرية دفاعاً عن وجودها وعن أمنها القومي، تماماً كما ينبغي علينا نحن العرب إجراء عملية جراحية لدرء خطر العدو الصهيوني، وخطر التركي والأميركي، وذلك لاستعادة فلسطين، والجولان والشمال السوري، ولتحرير أرض وثروات سورية والعراق ولبنان وليبيا، دفاعاً عن وجودنا وللمحافظة على أمننا القومي العربي.
نحن في زمن نكون أو لا نكون، ولا يمكن التفريط بوجودنا لأن المسألة ليست مسألة سياسية أو عسكرية أو اقتصادية وحسب، بل مسألة حماية وجود قيمنا وثوابتنا وحضارتنا وكرامتنا، الكفيلة بإبقائنا أمة بين الأمم، وإلا فإننا سنصبح أمة من خارج سياق التاريخ ومن خارج منظومة الأمم.