كتب د . نوّاف ابراهيم | ربيع كازاخستان الشتوي… الأسباب والتداعيات

الدكتور نواف ابراهيم | باحث سوري

عاشت جمهورية كازاخستان السوفياتية السابقة حالة من الرعب وأعمال الشغب والاعتداءات على البنى التحتية للدولة، وعلى الممتلكات الحكومية الرسمية والمدنية، بصورة عشوائية تعيد إلى الذاكرة بقوة أول مشاهد ما سُمِّي “الربيع العربي”.

بدايةً، لا بدّ لنا من أن نتحدث، على نحو مقتضَب، عن الأسباب المرجِّحة لاشتعال الاحتجاجات في هذا البلد، وفي هذا التوقيت، بغضّ النظر عن المعلَن منها، وهو قضية رفع أسعار الغاز المَسِيل، والتي لم يتلاءَم حجم ردة الفعل الشعبية عليها وانتشارُها السريع والمتنوع مع الضرورة التي أدّت إلى وقوع مثل هذا التسارع في تطوُّر الأحداث في الشارع الكازخي على الرغم من كل الإجراءات التي اتَّخذها بصورة عملية وسريعة جداً رئيسُ الدولة قاسم توكاييف من أجل تهدئة الأوضاع عبر توجُّهه إلى الشعب وإعلان إعادة الأسعار إلى ما كانت عليه قبل رفعها. والأكثر من ذلك إقالة الحكومة والمسؤولين عن قرار رفع الأسعار بصورة مباشرة، وإعلان حالة الطوارئ في بعض مناطق البلاد، وحظر التجوّل تحسباً لأيّ محاولات خارجة عن القانون من أجل استغلال هذه الأحداث من جانب جهات ما، داخلية أو خارجية أو ثنائية الهدف.

في المقابل، بدلاً من أن تهدأ فورة الشعب الانفعالية، ما حدث هو أن الاحتجاجات ازدادت وتوسّعت إلى سائر المدن والمناطق والأقاليم، منتهجةً سلوكاً واحداً في عمليات الشغب والتعبير الصاخب والمؤذي. ولم يتوقّف الغضب الذي سحب الرئيس في قراراته كلَّ مبرِّرات استمراره، إذ إن ما يُفهَم من ذلك أن هناك سيناريو ما تمَّ تحضيره مسبَّقا في انتظار الفرصة، وكانت مسألة رفع الأسعار مجرَّد شمّاعة لإشعال فتيل الأزمة الداخلية عبر مخطَّط لا يمكن أن يكون مُغايراً لما جرى في منطقة الشرق الأوسط، إلاّ في التوقيت ومنطقة التموضع الجغرافي. والصور التي تأتي من كازاخستان دليل قاطع على ما أتينا عليه.

لا توجد أيّ براءة فيما يجري في كازاخستان. لكن، لمَ أعطت السلطة هذا المبرر عبر رفع أسعار الغاز في هذا التوقيت؟ سؤال محوري ومهمّ جداً. في وقت قياسي، أعلن الرئيس قاسم توكاييف، في رسالة عبر الفيديو، أنه يتولى منصب رئيس مجلس الأمن، وقال الرئيس توكاييف: “بصفتي رئيس الدولة، ومن اليوم فصاعداً رئيس مجلس الأمن، أعتزم التصرف بأقصى قَدْر ممكن من الصرامة”. قبل ذلك، كان هذا المنصب يشغله الرئيس الكازخي السابق، نور سلطان نزارباييف. وقال الرئيس توكاييف “مهما يكن الأمر، فسأكون في العاصمة”. ووعد بمواصلة الإصلاحات السياسية. وقال إن الاحتجاجات تشكّلها “مجموعات من المجرمين ومن قطّاع الطرق، الذين يستهزئون بالجنود”. إذاً، هو استشعر دقة الحدث وانعدام البراءة فيما يجري، أو استند إلى معلومات دقيقة بشأن هذا الأمر. لكنْ، بِمَ تذكّر هذه الطلعة الصاروخية والمفاجئة في كازاخستان؟ ألا تذكّر بما يسمّى “الربيع العربي”؟

بعد الاعتداءات المباشِرة على قوات الجيش وحفظ الأمن، وعمليات التكسير والإحراق للمؤسسات الحكومية، وأُولاها بلدية ألما آتا، ظهر السلاح في أيدي المحتجّين في كازاخستان بأسرع ما هو متوقَّع، الأمر الذي فرض على الرئيس الكازخي تسمية ما يجري بالخطر الداهم على الدولة. وتوجّه، بسببه، إلى طلب الدعم والمساعدة من رؤساء الدول الأعضاء في منظمة الأمن الجماعي، من أجل تحييد “الاعتداء والخطر والهجوم الإرهابي عن البلاد”، كما سمّاه، ولا أعتقد أن هذا التوصيف أتى من فراغ أبداً.

يُذْكَر أن كازاخستان هي تاسعة أكبر دول العالم، من حيث المساحة، ومن أغنى دول آسيا الوسطى. وكل الدول المحيطة بها، بما فيها روسيا والصين، بالإضافة إلى دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، لديها فيها مصالح كبرى. والأكثر من ذلك أنه تحدها مع روسيا حدود تزيد على 7000 آلاف كيلومتر، أي ما يعني أنه أطول خطّ حدودي بين دولتين في العالم، وهذا يشكّل خطراً حقيقياً على روسيا وأمنها القومي بصورة مباشرة. ويعيش فيها أكثر من 20 في المئة من السكان من أصول روسية، وهي حليفة استراتيجية لروسيا، وتعتمد عليها في كثير من المجالات، بما فيها العسكرية والتقنية، عدا عن أن فيها قاعدة محورية للنشاط الفضائي الروسي في بايكانور.

عدا عن أن كازاخستان هي أحد المداخل الأساسية لروسيا ومنطقة مجالها، عبر السيطرة الجيوسياسية على آسيا الوسطى، فإنها إذا وقعت تحت سيطرة الغرب فستكون كارثة حقيقية. وإذا أتى الغرب بمن يؤيده إلى سدة الحكم، فستكون هي بمثابة كارباخ وأوكرانيا 2. حينها، من أين ستتنفّس روسيا حرية الحركة في مصالحها الجيوسياسية والاقتصادية وأمنها القومي؟ سيكون الأمر خطراً عظيماً، إلاّ إذا تدخلت منظمة الأمن الجماعي التي تدخل في عضويتها كازاخستان، في الوقت الملائم ووفق الطريقة الناجعة والمدروسة، وعلى نحو واسع النطاق، وليس الاكتفاء بإرسال قوات حفظ النظام موقتاً.

بحسب المعلوم، تشكّلت في كازاخستان منذ نحو 7 سنوات بؤر لمجموعات متشدّدة، لم يقدر الرئيس السابق نور سلطان نزار باييف على أن يصل معها إلى اتفاق، أو حتى تصفيتها، فبقيت حالة الهدنة غير الموثّقة على حالها. وإن تحرّكت هذه المجموعات، كما حدث في دول أخرى، فسنكون أمام سيناريو خطير قد يدفع إلى مواجهات كبرى، وستعود الأوضاع إلى خلط الأوراق، إقليمياً ودولياً، كما هي حال سوريا. لكن، هل ستقدر كازاخستان فعلاً على أن تتحمّل ما تحمّلته سوريا على مدى عشر سنوات من حرب استنزاف جهنمية، وخصوصاً أن كل الموجبات والظروف والأدوات اللازمة لذلك تتوافر في كازاخستان، ويمكن اللعب عليها بوتيرة الخبرة مع الملف السوري.

من هنا، وانطلاقاً من الخطة الأميركية الغربية المفضوحة أصلاً، نرى أن ما يحدث أو قد يحدث، بعد ذلك، في كازاخستان وفي الجمهوريات السوفياتية السابقة ودول الطوق الروسي، مثل أوزبكستان وقرغيزستان وتركمانستان وأوكرانيا، وما حدث قبلها في جورجيا وفي كاراباخ “المتنازَع عليها بين أذربيجان وأرمينيا”، وفي بريدنستروفيه ومحاولات نشر الدرع الصاروخية في دول أوروبا الشرقية عند الحدود مع روسيا، وحتى الانسحاب الغريب والمفاجئ من أفغانستان، نرى أنها جزء لا يتجزأ من محاولات الولايات المتحدة الأميركية، ومعها دول الغرب، لتقويض دور روسيا في الساحتين الإقليمية والعالمية، ومحاصرتها وفرض قواعد المعضلة الأمنية، بصورة لا تسمح لها بالتحرك إلاّ في إطار ما تتيحه لها المحدِّدات الناتجة من إحداث حالة عدم الاستقرار للأمن القومي الروسي في محيطه الجيوسياسي، القريب والمتوسط وحتى البعيد. إذاً، هي حرب حقيقية لشنق روسيا بعيداً عن الحاجة إلى أي مواجهة مباشِرة أو حرب تقليدية لم تعد تؤتي أُكُلها، في الوقت الذي يتعاظم الدور الروسي في الساحة الدولية كقوة عظمى تجابه الهيمنتين الأميركية والغربية على العالم، مع الأخذ في الاعتبار تغيُّر أشكال الحروب والمواجهات، اعتماداً على التقدم والتطور، تكنولوجياً وبيولوجياً وسيبرانياً، وعلى الذكاء الاصطناعي والقدرات المعرفية والعلمية والقدرة على استخدام القوة والعنف بصواريخ فرط صوتية، كما هي الحال عند الصين وروسيا والقوة الناعمة… إلخ.

إذاً، حالة التضييق على روسيا مستمرة، ولا توجد أيّ براءة لأحداث كازاخستان. وانطلاقاً مما سلف ذكره، ومن الشواهد الحية التي تُثبت أن الجنون الأميركي من انهيار عالم القطب الواحد وسَحب طوق السيطرة على العالم من يدي واشنطن لن يهدأ حتى تحقق هدفها في إعادة الهيمنة على العالم، فإن هذا ما وضح تماماً في عقيدة بايدن، وقبله عقيدة ترامب، والقائمتين على مبدأ “أميركا أولاً” في وثيقة الأمن القومي، مع تقديم الصين على روسيا كعدو في عقيدة بايدن. واشنطن لا تريد أن تعترف بالتغير القائم في العالم، وتحاول أن تمنع التقارب الروسي الصيني، وأي تقارب آخر، إقليمياً ودولياً، مع هاتين القوتين، على نحو لا يخدم مصالحها، ولا تريد أن تعي أن التوازنات العالمية التي حدثت جراء أفعالها وسياساتها لم تكن في مصلحة تحقيق أهدافها. لذا، ذهبت في اتجاه تغيير هذه التوازنات التي تسبَّبت هي بها من خلال افتعال أزمات جديدة وفق المبدأ نفسه الذي قام عليه ما سُمِّي “الثورات الملوَّنة” و”الربيع العربي” وما شابههما.

روسيا والسيناريو الإنكليزي

توحَّد الغربيون مع أميركا ضد روسيا، وتحديداً بريطانيا التي تحاول إعادة إنعاش الحلف الأنغلو ساكسوني وحيازة ريادة العالم، ويحاولون تطبيق سياسة “فَرِّقْ تَسُدْ” الإنكليزية، ويسعون لتدميرها وإقصائها عن الساحة العالمية، وإبعادها عن حلفاء استراتيجيين وشركاء إقليميين وعالميين، وأفلحوا إلى حد في إبعاد ألمانيا عن روسيا، وخصوصاً بعد رحيل أنجيلا ميركل، التي كانت تقود حكومة موحَّدة إلى حد كبير، وليست، كما الحكومة الحالية، متعدِّدة التوجهات والأيديولوجيات، وتجنح بصورة عامة إلى الغرب والولايات المتحدة. والدور الباقي على الصين من أجل إبعاد روسيا عنها، وتدمير ما يقدرون عليه من مشروع “طريق الحرير”، “طريق واحد حزام واحد”، والذي بات في نهايات رسمه والتوافق عليه. والشيء بالشيء يُذكَر، فإن التبجّح بنجاح سياسة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في رفع مستوى تعاظم ألمانيا كقوة أوروبية فاعلة، لم يأتِ من فراغ، بل ضمن مخطط لتحجيمها فيما بعد. وهذا ما يحدث. وسنرى يوماً ما، ولعله ليس بعيداً في ظل المتغيرات الحالية، أن أنجيلا ميركل لا تعدو عن أن تكون “غورباتشوف ألمانيا”. ووفق ما يظهر عبر الحجة والمنطق، فإنهم لن ينجحوا في تفتيت روسيا أو إقصائها أو تحييدها عن الساحة العالمية، وعن أخذ دورها المستحق وفق جميع الشرائع والقوانين التي تحكم العلاقات الدولية. فروسيا دولة قوية جداً، ومستعدة لكل الاحتمالات. ولديها، وفق مبدأ ما خفي أعظم، ما هو أعظم فعلاً. وبافتعالهم المشكلة مع أوكرانيا هم يريدون أن يقتل الروس (“الشعب السلافي”)، بعضهم بعضاً.

التعنّت الأميركي الغربي لن يجلب سوى الاهتزاز لحالة الأمن والسلم الدوليين الغائبة أصلاً.في الوقت نفسه، نرى أنه في الولايات المتحدة، المهتزّة سياسياً واقتصاديا وحتى داخلياً، على المستوى الاجتماعي، يوجد خطان: خط يعترف بقوة روسيا وأهميتها، ويحثّ على الحديث معها باحترام، كما يليق بدولة عظمى. وطرف آخر مقتنع بأن روسيا دولة ضعيفة، ومن السهل تدميرها، ويحاول أن يقنع الباقين داخل الولايات المتحدة وخارجها من أجل التوجه إلى القضاء عليها، قبل أن تتعزّز مكانتها الدولية، وتتعاظم قوتها العسكرية أكثر، دفاعياً وهجومياً.

إذاً، هم يحاولون أن يشغلوا روسيا عن منصة تشكُّل النظام العالمي الجديد، ويُضعفوا تأثيرها، ويجعلوا من المشاكل الإقليمية الشغل الشاغل الذي يصدع رأس روسيا كي تعود الولايات المتحدة إلى الاستفراد بالعالم. وهذه هي حقيقة الاستراتيجية الأميركية التي تكمن في صلب سلوكها الحالي. ووصول محاولات زعزعة الاستقرار في المحيط الجيوسياسي الروسي إلى كازاخستان، وإمكان تمدده إلى دول الجوار وما بعد الجوار، ما هما إلاّ دليلٌ قاطع على الصورة التي نتحدث عنها، عبر الواقع المستند إلى مجريات الأحداث، وليس بالتحليل الذي يرتكز فقط على معطيات ناتجة من رؤى تترابط بها الأحداث وتتقاطع مع بعض الواقع المبهَم منه. والواضح أنهم لن ينجحوا كما ذكرنا آنفاً. فالرئيس بوتين كان واضحاً جداً وجاداً فيما يقول، وروسيا لو لم تكن قوية فعلاً، وتشكّل قوة حقيقية تصعب مواجهتها وجهاً لوجه، لَما كانت لتحدث كل هذه المحاولات غير المباشرة من أجل إضعافها. ولما كانت روسيا، بشخص الرئيس بوتين، توجّه التحذيرات الجدية المقرونة بإظهار القدرة.

في ظلّ كل ما ورد، لا يمكن أن يكون كلٌّ من تركيا والكياني الصهيوني في حالة أدنى درجة من البراءة مما يجري في المحيط الروسي. ونحن نعلم تماماً بأن هذين العضوين يشاركان، بصورة أو بأخرى، في التحالف الدولي ضد تعاظم روسيا، وهما يضايقان روسيا في جميع مناطق تحركها ونفوذها الجيوسياسي ونفوذها الاقتصادي، وخصوصاً في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا، في شمالها وجنوبها، وحتى شرقها وغربها، وصولاً إلى آسيا الوسطى، كما نرى في دول البلقان وبعض من أوروبا الشرقية. أمّا الكيان الصهيوني، فهدفه وسلوكه واضحان كعين الشمس، ويتعامل بكل فظاظة ووقاحة واطمئنان إلى أن الروسي لن يذهب نحو الردع والمواجهة معه، لأسباب كثيرة لا ضرورة لعدّها الآن. أمّا التركي فيمكننا أن نقول، باختصار شديد جداً، إنه انطلاقاً من مجرد التفكير في “مشروع توران”، الذي يسعى من خلاله الرئيس إردوغان لاستحداث تكتل من 16 دولة على أساس التاريخ والرابط الجغرافي وغير الجغرافي، وعلى أساس الدين واللغة والإثنية لهذه الدول، وظهور عبوات مياه معبأة بهذه التسمية في احتجاجات كازاخستان، لا أظن أن التركي أيضاً خارج إيصال جزء من الرسالة. يعني هذا الطموح التركي في حال أُعطي فرصة الحياة ولو موقتاً من حيث المبدأ، يخدم مخطط الولايات المتحدة ومن معها من الغرب في زعزعة استقرار روسيا والصين، وأي دولة من دول آسيا الوسطى ترغب في البقاء معهما أو الانضمام إليهما في تكوين التحالفات القادمة، ويقود في المحصّلة إلى تخريب شبكة “طريق الحرير” الذي أرعب الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة، وأثار مخاوفه من خسارة التسيّد في العالم القادم. لذا، على ما يبدو، كان يجب منذ البدء قصقصة الطموح التركي، الذي لم يكن يخجل إردوغان من إعلانه في كل مناسبة. كان يجب لجمه في سوريا بالتحديد قبل أن يتوحّش ويتمدد. وجميعنا يعلم بأن الروسي، في كل الأحوال، صبور ويتعامل بحكمة وبرودة وبدرجة استشعار عن بعد، عالية الدقة، وباستقراء حساس للمستقبل، ولا يمكن أن يترك دَيناً مستحقاً له في ذمة أحد.

وفي هذه المتاهات الموجعة للأفكار، لا يمكن أن نصل إلى أي نتيجة أو استنتاج حالي لما يمكن أن تؤول إليه الأمور، لكن أهم ما يمكن الحديث عنه في ظل حرب كسر العظم القائمة بين الجبابرة، يمكننا القول إن الحرب والمواجهات الكبرى والمباشرة غير واردة، وخصوصاً بعد إعلان اتفاق الدول النووية الخمس على منع وقوع حرب نووية، لكن هذا لا يكفي، على الرغم من أنه قد يحدّ تسارُعَ سباق التسلح. ولو أن الغرب وأميركا كانا يعرفان قدرة روسيا على المواجهة والردع والهجوم، لما كانا ذهبا إلى هذا الاتفاق قولاً واحداً، لكنه يوحي بأن الوضع قد يذهب إلى حروب ومواجهات إقليمية محدودة الزمن والجغرافيا، لن تشارك فيها هذه الدول بصورة مباشرة، وإنما على مبدأ الحروب البديلة. وبطبيعة الحال، لا يمكن التكهن بأي سيناريو عالمي بصورة دقيقة، ولا يمكن أن يتعدى التصور لما يمكن أن يكون حدود التخمين، لكن لا بد من الاعتراف بقوة الدور الروسي، وقوة التحالفات التي يمكن أن تنشأ وتتثبت بين القوى والأحلاف الصاعدة، والتي ستحدّ عنجهية الهيمنة الأميركية ـ الغربية وتمددها، إلى أمد بعيد.

في المجمل، هناك حرب حقيقية ضد الشعوب وليس بين دول ودول أخرى إلاّ بالعناوين:

أغلبية الشعوب لم تستوعب ما يجري في العالم، ولم تتعلم من أخطاء غيرها من بعض الشعوب التي حاولت إسقاط دولها وحكوماتها، تحت عنوان “من أجل الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية”، التي هي فعلاً من حق الشعوب. لكن ليس هكذا تورد الإبل. فالثورات الكاذبة والمدمّرة مستمرة بزخم كبير على الرغم من أنها تأخذ الشعوب من سيّئ إلى أسوأ، وأسوأ من الأسوأ، بغض النظر عن قدسية الثورات الحقة التي تقودها النُّخَب ضد الظلم، وليس السواطير والقنّاصات وما لفّ لفّها، ومن دون المقارنة التاريخية مع أي ثورة، أو ما قد يكون سمي بذلك.

كل الثورات في العصر الحديث فشلت فشلاً لا تطاق عواقبه، ودمّرت دولاً وشعوباً بأكملها، ولم تجلب إلاّ الموت والجوع والفقر والويلات، والموت الأكثر من الموت. بعض هذه الشعوب يحنّ إلى العصر الحجري وأيام الجاهلية التي لم يعيشوها، لكن أجزم بأن أيام العصر الحجري والجاهلية كانت أهون عليهم مما يفعلونه بأنفسهم. العالم يتدمر، وهناك من يقتل كل من هب ودب على الأرض من الحجر والبشر في مناطق محدَّدة ومفروزة في الكرة الأرضية، ولا أحد يريد أن يستفيق.

استشراء الظلم والاستبداد وغياب المفكرين الأصحاء وقادة المجتمع المؤثّرين في معظم هذه الدول التي تحترق بلا بنزين، كانت من جملة الأسباب الموضوعية في حالات الجهل والفقر، أو بالأحرى الإفقار والتجهيل، من أجل تسهيل غياب القوانين والعدالة الاجتماعية واستغلالها من جانب الطامعين. وأدّت إلى هذا الانتحار الجماعي لشعوب العالم، في منطقة وراء أخرى، ودولة وراء أخرى، لكن لا يقوده أصحاب القضايا المزعومة، ولا هم يسيّرونه، ولا هم يديرونه، لا قبل، ولا في وطأته، ولا حتى بعده.

إذاً هي ظاهرة تستحقّ التفكير!!! والسؤال المطروح بقوة هنا، هو: لماذا يجري هذا في مناطق محدَّدة فقط من العالم، بينما تنعم مناطق أخرى بالهدوء والأمن والاستقرار، على نحو كليّ أو نسبيّ؟ أم أن الحريق سوف يصل إلى قفا من يشعله، أو يزيد في ناره، أم أنه سيلتهم الجميع على حين غرّة ما لم يحتكم العقلاء إلى العقل. وهل ننتظر لقاء يالطا جديداً يُنهي هذا التخبط العالمي ويخمد البركان الثائر؟

لا أعتقد أننا قادرون على الجواب في الوقت الحالي.

 

الميادين نت

 

Exit mobile version