كتب د . نواف ابراهيم | بعد فشل مشروع الناتو العربي.. الولايات المتحدة تحاول تعويضه بآخر في آسيا
الدكتور نواف ابراهيم | كاتب واعلامي مقيم في روسيا
جددت الولايات المتحدة الأميركية محاولاتها لزعزعة الاستقرار في المحيط الجيوسياسي الروسي، وهي تجري مناورات غريبة ومريبة في طاجيكستان. ثمة أمر خطر ومهم جداً يحمل في طياته الكثير من المعاني الغامضة، ويكمن في أن طاجيكستان بدأت بتاريخ 10.08.2022 مناورات عسكرية ضخمة تحت مسمى “مناورات التعاون الإقليمي لعام 2022″، تستمرّ لمدة 10 أيام.
تعتبر هذه المناورات أضخم تدريبات أميركية في وسط آسيا وجنوبها، وتشارك فيها كل من أوزبكستان وكازاخستان وقرقيزستان ومنغوليا وباكستان، والتي تدخل في عضوية منظمة الأمن والتعاون الجماعي بقيادة روسيا، وتدخل أيضاً في عضوية منظمة “شنغهاي للتعاون” التي من المقرر أن تعقد قمتها المقبلة في 13 – 15 أيلول/سبتمبر المقبل في العاصمة الأوزبيكية سمرقند.
للمشاركة في قيادة هذه المناورات، وصل إلى طاجيكستان قائد القيادة المركزية الأميركية الجنرال مايكل كوريلا مع عدد كبير من القوات والعتاد العسكري الأميركي. كوريل ذكّر الرئيس رحمانوف، وبسعادة، بأنَّ الولايات المتحدة قدمت على مدى 30 عاماً 330 مليون دولار لطاجيكستان، وتخطط لإرسال 60 مليون دولار أخرى خلال العامين المقبلين دعماً للأمن.
من الغريب أن يتبجّح كوريل بهذا المبلغ من دون خجل، في وقت يرسل الرعايا الطاجيك الذين يعملون في روسيا سنوياً أكثر من 3 مليارات دولار إلى أهاليهم. إنها مفارقة غريبة في أن يذهب الطاجيك للاعتماد على الأميركي الذي يغيب أو يحضر شراً في حالات الاهتزاز السياسي والاجتماعي والأمني في هذه البلدان، كما حدث في الآونة الأخيرة في كازاخستان.
ومن المعلوم أن الرئيس فلاديمير بوتين زار طاجيكستان، والتقى الرئيس رحمانوف يوم 28 حزيران/يونيو الماضي، ولم يدرِ أحد تفاصيل اللقاء. ولعلَّ الرئيس بوتين سيكون لديه ما يقوله في قمة شنغهاي المقبلة بعد ما حصل.
الأمر المريب يكمن في أن هذه المنطقة تضمّ قوةً لا يستهان بها، هي أفغانستان التي موّلتها وسلّحتها الولايات المتحدة بما لا يحصى من السلاح عندما غادرتها فجأةً منذ فترة قريبة. والأخطر أنّ القيادة الأفغانية الجديدة قالت ذات مرة منذ وقت ليس ببعيد إنها قادرة على السيطرة على طاجيكستان خلال أسبوع. من هنا، فإنّ كلّ ما تقدم يدعو إلى القلق، ولعلَّنا نفهم بعضه فيما سيأتي لاحقاً.
هذه المناورات تجري في المحيط الحيوي والجيوسياسي الروسي والصيني. الصين لم تعلق على الأمر. وهناك معلومات غير دقيقة تقول إنَّ موسكو وافقت على هذه المناورات، لكونها جاءت، بحسب الإخطار، في إطار “تدعيم الأمن الإقليميي ومكافحة الإرهاب والمخدرات”، بحسب الادعاء المعلن، لكنّها لم تشارك فيها.
في المقابل، برزت حالة من الهمس الداخلي في بعض مؤسسات الدولة حول هذه المناورات والموقف الروسي الرسمي الضمني، سواء وافقت موسكو عليها أم لم توافق، لكون الدولة الروسية أيضاً، كما الصين، لم تبدِ أيّ تعليق، لأسباب من المفترض أن نفهم بعضها قريباً أو قد تبقى طي الكتمان لاعتبارات خاصة.
خطورة هذه المناورات، وفق ما يراه بعض المعنيين جداً بأصل الحدث، تكمن في أنَّها يمكن أن تكون محطة خطرة لضرب أهداف في روسيا والصين، وخصوصاً أنها تجري قرب ثاني أكبر قاعدة روسية في الخارج، وذلك في دوشنبه على الحدود الطاجيكية الأفغانية.
وهنا، نذكر أنَّ حلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة، ووفق عقيدته الجديدة، قدم روسيا على الصين كعدو أول يشكّل تهديداً مباشراً لأمن حلف الناتو فعن أي أمن يتحدثون في آسيا الوسطى!
ويرى البعض الآخر من أصحاب الرأي والأمر أنَّ الرئيس الطاجيكي إمام علي رحمانوف يريد أن يتبع السياسة نفسها التي يتبعها الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، وهي سياسة توسيع علاقاته في مختلف الاتجاهات، بما يضمن له مصالحه أو ما يراه مناسباً له، وروسيا تأخذ هذا الأمر بعين الاعتبار بشكل دقيق.
في المقابل، رجّحت بعض التقديرات أنه تم الاتصال بموسكو وإبلاغها بأن المناورات لا تشكل خطراً على أحد، ولكنَّها تجرى من أجل تمتين جبهة مواجهة الإرهاب، وخصوصاً الإرهاب المتسلل والقادم من أفغانستان، وأيضاً لمكافحة المخدرات.
عندما سألنا معنيين آخرين عن فحوى ما يجري، كان الجواب: “الولايات المتحدة وبريطانيا أخفقتا في إقامة ناتو عربي في منطقة الشرق الأوسط على هيئة حلف الناتو الحالي”.
هذا المشروع أخفق أو بالأحرى تم إفشاله، رغم كل المحاولات الأميركية مع دول المنطقة، بالاستناد إلى الكثير من تشبيك المصالح التي روج لها الأميركي، وروسيا تدرك وتعي تماماً أن ما يجري الآن ما هو إلا محاولات أميركية غربية جديدة من أجل تعويض هذا الإخفاق في إنشاء ناتو آخر موازٍ في منطقة آسيا الوسطى.
تتعامل موسكو مع هذا الأمر بكلّ هدوء ووعي، وتعلم تماماً أن مثل هذا الناتو لن يكون له أثر كبير في الوقت الحالي، وسيكون ضعيفاً جداً، وتعي أن عليها حالياً أن تتعايش مع هذا الحلف الجديد كيفما كانت بنيته، لأنها تدرك تماماً أن العالم يتغير، وتفهم جيداً كيف يتغير.
بصرف النظر عن رضا موسكو من عدمه بخصوص هذه المناورات، ففي كلّ الأحوال، مثل هذه المناورات الاستراتيجية يخفي وراءه الكثير من الخفايا والخبث، ويترك أمام الجميع الكثير من التساؤلات المهمة التي تبحث عن أجوبة، وخصوصاً أنّ كلّ هذه الدول المحيطة تعتمد في حياتها على روسيا. مثلاً، قرقيزيا تعتمد بنسبة 40% من اقتصادها على روسيا، وكذلك أوزبكستان وطاجيكستان.
هذه المناورات غير مريحة، وليست ذات نية طيبة، وخصوصاً أنها تجري قبيل انعقاد قمة شنغهاي للتعاون على مستوى الزعماء، والتي من المقرر عقدها في العاصمة الكازاخية سمرقند في أيلول/سبتمبر المقبل، والدول الجارة لروسيا المشاركة في المناورات هي أعضاء في القمة، لكونها منتسبة إلى “منظمة شنغهاي” ومنظمة “الأمن والتعاون الجماعي”.
هاتان المنظمتان ليستا منظمتين عسكريتين أو اتحاداً عسكرياً. وقد أسَّستهما الصين وأزوبكستان وطاجيكستان وكازاخستان. هذه الدول تريد دائماً الكثير من روسيا، وتطلب منها ذلك وتناله، لكن في المقابل عندما يرى هؤلاء مصلحة ما في جانب آخر، فإنهم لا يتوانون عن التعاون معه، ومن دون حساب النتائج على المديين المتوسط والبعيد، وهذا مبعث قلق مبرر لروسيا.
عندما تشارك دول جارة في المحيط الأوراسي الجيوسياسي الروسي، والتي يفترض بحكم الواقع أن تكون حليفة لروسيا، في مثل هذه المناورات، وعلى وقع الحرب في أوكرانيا، فإن هذا يعني أن الحلم التاريخي لبريطانيا والولايات المتحدة الأميركية بإقامة قواعد عسكرية في إحدى هذه الدول عاد إلى الحياة مرة جديدة، وخصوصاً في قرغيزيا، التي تربطها علاقة متينة وصادقة مع روسيا ويؤتمن جانبها (تاريخياً وحتى الآن). وقد فشلت عدة محاولات لتطويعها وإبعادها عن روسيا، أو في طاجيكستان أو أوزبيكستان، أو أي من الدول المحيطة بروسيا.
وبالتالي، هذه القواعد ستشكل خطراً على الأمن القومي الإقليمي، ليمتد إلى روسيا، ويتعداها أيضاً إلى الدول القريبة والحليفة لها، مثل إيران وسوريا والصين، وصولاً إلى الهند.
الحرب الدائرة الآن في أوكرانيا وضعت كلّ شيء في مكانه. كانت روسيا تقدم كل عام لأوكرانيا 2 مليار ونصف مليار دولار دعماً لها. وبعد الحرب، كسبت روسيا في خزينتها هذا المبلغ الكبير، فيما قامت الولايات المتحدة الأميركية، عندما أرادت أن تساعد أوكرانيا كما تدّعي، لتحقيق الديمقراطية، بتقديم مبلغ خجول حينها، قدره 150 مليون دولار، وفق ما أعلن.
لكن في وقت الحرب، تجاوز هذا الرقم كل الحدود، لكون حسابات الولايات المتحدة اختلفت، وما زالت، ومن خلفها دول الغرب، تقدم كل ما يمكنها، ولو على حساب مصالحها ومصالح شعوبها وأمنها القومي والاجتماعي، كما نرى حالياً.
هنا، لا بد من التذكير بأنَّ هذه المناورات لا تُنفذ لأول مرة، ولكنها كانت تُنفذ في الأراضي الأميركية. وهنا، نذكّر أنها قريبة جداً من المحيط الجيوسياسي الروسي، بل يمكن القول إنها في قلبه. إذاً، هي تدل على نيات خبيثة لدى الولايات المتحدة الأميركية.
من بين الأهداف الأميركية الظاهرة هي عودة الولايات المتحدة إلى محاولات عزل روسيا عن محيطها الإقليمي بأيِّ ثمن كان، ولكن الفرق بين هذه المناورات وما سبقها أنها كانت تجري في ظروف مغايرة، حتى إنها أجريت منذ عامين في أوج انتشار فيروس كورونا.
أما اليوم، فهي تقام في وقت وظرف حساس على خلفية الأحداث الدائرة في أوكرانيا ومحاولات استفزاز الصين في تايوان. وعندما يتم إجراؤها اليوم في طاجيكستان، في وقت تستعر الأوضاع في أوكرانيا وتتطور في اتجاهات مختلفة، فهذا يعيدنا بالذاكرة إلى الماضي بأنّ ألمانيا الهتلرية يومئذ أجرت مناورات بتاريخ 20 حزيران/يونيو 1941، وبتاريخ 22 حزيران/يونيو 1941، حين بدأت الحرب على روسيا بشكل مباغت.
الأسئلة التي تطرح في مثل هذه التحديات الخطرة تتلخّص بالتالي: أين؟ ولماذا؟ ومتى؟ هذه هي الأسئلة الرئيسية التي تطرحها السياسة في مثل هذه الظروف، والأمر الآخر والأكثر غرابة ليس مشاركة دولة نووية، مثل باكستان، في هذه المناورات، فحسب، بل مشاركة منغوليا أيضاً فيها؛ الدولة المحورية المهمة في الخاصرة الروسية، والدرع المهمة للأمن القومي الروسي، والغنية جداً بمواردها الطبيعية الجمة، مثل الألماس والذهب والغاز والمعادن الثمينة الأخرى.
إنّ قلق بكين لا يقل هنا عن قلق موسكو، لكون مشروع أنابيب غاز من روسيا إلى الصين يمر عبر منغوليا. ومن المقرر أن يبدأ العمل به عام 2024، ويطلق استثماره عام 2027.
وضع طاجيكستان وأوزبكستان مفهوم إلى حد ما، لكون الولايات المتحدة التي تدمر أوكرانيا حالياً مع حلفائها الغربيين وتزود النازيين بالسلاح، تزود طاجيكستان وأوزبكستان بالسلاح أيضاً وتدعمهما، وكما يقول المثل: “من يدفع المال يحجز الموسيقى التي يريدها”، وبالتالي لا فرق عندهم في ماهية المناورات، ولا أين يمكن إجراؤها، ولا ما يترتب عليها في وقت لاحق لا علم لهم بكنهه.
ما يثبت خبث النيات الأميركية هو محاولة هربها من أزماتها بهذه الطريقة، في وقت تشهد الولايات المتحدة الأميركية، بحسب الإحصاءات والدراسات، حالة خطرة من التخبّط، ويقال إنها سوف تنفجر أغلب الظن مع بداية شهر تشرين الأول/أكتوبر القادم، بالدخول في أزمة كارثية شاملة، في الوقت الذي يتهرب الجميع من مسألة الالتزام بالدولار كعملة أساسية في التعاملات الدولية.
وفي شهر أيلول/سبتمبر القادم، يقال أيضاً إنّ مشاكل الطاقة ستبدأ مع قدوم الطقس السيئ، فضلاً عن أزمة الغذاء، ما سيزيد الطين بلة في دول الاتحاد الأوروبي التي سارت بلا حسابات خلف الأميركي، وهذا أيضاً سيخفف التعامل باليورو، لتبدأ الكوارث الحقيقية بالظهور في بلدان الاتحاد ما لم يتعقل قادته في الوقت المناسب.
التوقعات القادمة تشي بأنَّ الجميع على أبواب الانهيار، وأن روسيا وحدها لا يمكن أن تواجه كل انعكاسات هذه التحديات. إذاً، هي بحاجة إلى تدعيم تحالفاتها الاستراتيجية، وهذا ما نراه مع دول منطقة آسيا، ومع إيران حالياً، وحتى محاولات تطويع التركي التي بدأت معالم نجاحها إلى حد كبير بعد قمتي طهران وسوتشي في الآونة الأخيرة.
أيضاً، روسيا لديها حليف استراتيجي مهم ومخلص في المنطقة هو سوريا التي تمركزت فيها عسكرياً بشكل يجعلها مطلة على نسبة كبيرة من الأهداف للطرف المعادي الذي يجاهر بعدوانيته ضد موسكو.
ثبتت روسيا فعلاً مركزيتها في منطقة المياه الدافئة، كما يطلق عليها تاريخياً، ما بين البحرين الأسود والبحر الأبيض المتوسط والمضايق فيما بينهما، وصولاً إلى مياه المحيطات، وتحديداً الهادئ والهندي، ما يعطيها القدرة على استشعار الأهداف المعادية عن بعد، والقدرة على مواجهتها في الظرف والمكان المناسبين، بشكل يحقق لها الدفاع عن مصالحها وأمنها القومي وأمن حلفائها.
بكل تأكيد، موسكو لديها خطط في هذا الاتجاه الآن، وتنسق مع حلفائها، وتحديداً الصين، بشأن الضرر الذي قد يخلّفه الأميركي وحلف الناتو. ويبقى الدور على السياسيين وخبراء الجيوبوليتيك الّذين عليهم أن يدرسوا هذه المتغيرات بدقة متناهية، وأن يتمكنوا من تقديم النتائج مع المقترحات اللازمة، في وقت تستمر الولايات المتحدة بمحاولات استثمار باقي الدول من دون الاكتراث بمصالحها القومية ومصالح شعوبها.
ومع ذلك، لا نزال نرى دولاً تسير خلف الركب الأميركي، رغم كل الشواهد التي تؤكد عدم جدوى اللحاق بالأميركي التائه، بعد أن كشف بعين اليقين أثره السلبي في الجميع دولاً وشعوباً. وقد يكون القادم أعظم، كما يقال، في حال لم تستدرك هذه المخاطر الداهمة.