الدكتور نواف ابراهيم | باحث استراتيجي مقيم في موسكو
صدَّعت الولايات المتحدة ومن ورائها الدول الأوروبية على مدى عقود طويلة من الزمن، أو بالأحرى طوال القرن الماضي، صدَّعوا رأس العالم بالديمقراطية والحرية ومكافحة الظلم والإستعباد والدفاع عن حقوق الإنسان ومكافحة الإرهاب “مولودها الحرام” من فعلِ تلاقحِ كل هذه الأكاذيب مع أسباب التعاطي معها.
نعم وُلِـدَ الإرهاب عن سابق وعي وإستحضار جراء هذه السياسات التي أسست له وربته وغذته وإعتنت به خير إعتناء، ونشرته وإستثمرته في تحقيق مصالحها ومآربها الجيوسياسية والإستراتيجية والإقتصادية وتطويع الدول في شتى مناطق العالم.
في كل مكان وزمان كان يظهر فيه هذا الإرهاب يكون له لَـبُـوس ومسمى جديد، وآخر صرعاته في الشرق الأوسط كان مايسمى “تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام “، “المحظور في روسيا وعدة دول أخرى”، أما في أوكرانيا فالنازيون الجدد يسيرون على نفس السيناريو ونفس الإخراج ونفس الممثلين ونفس أساليب التعاطي والتعامل، نعيش نفس الحالة في وقت واحد لكن في بقع جغرافية منفصلة وبأساليب وأدوات ومسميات جديدة.
التاريخ مليء بالتفاصيل عن ولادة الإرهاب والحركات والتنظيمات الإرهابية، وكانت بريطانيا هي الأم الأولى التي أنشأت حركة “الإخوان المسلمون”، ثم باعتها أو أجَّرتها للولايات المتحدة الأمريكية لتوظيفها في خدمة مصالحهما وفق الهندسة الأمريكية بالتشارك مع البريطانية، ومن ثم تمخضت الحركة مع تغير الزمن وتغير التموضعات والتحالفات الدولية بعد الحرب العالمية الثانية عن ولادة تنظيم “القاعدة” بعملية قيصيرية كلفت الولايات المتحدة كثيراً لتقنع العالم بالمهمة الإنسانية الكاذبة التي بدأت فيها من أفغانستان وكانت النتيجة أنه بعد عشرين عاماً من دخول الولايات المتحدة والحلفاء الغربيين إلى أفغانستان حصلنا على بلد مُدَمِّر موحش بفقرٍ مُدقع تموت فيه الحياة كل ثانية أكثر من التي قبلها، عشرون عاماً من الإحتلال والقتل والدمار والتهجير والتشريد لأبناء هذا البلد ومليارات الدولارات من الأموال صرفت لتمويل عملية القضاء على الإرهاب المزعوم وآلاف القتلى من الجنود الأمريكيين وحلفائهم في الختام تربعت حركة طالبان التي أتوا لمحاربتها على رأس السلطة بعد عشرين عاماً من محاربتهم لها.
ثم توسعت عدسة المنظار الأمريكي إلى بلدان العالم العربي والشرق الأوسط للأهداف نفسها، زد عليها كف يد روسيا في المنطقة ومنعها نهائيا من الوصول إلى منطقة المياه الدافئة والإستفراد بمقدرات وثروات وإمكانات وموارد المنطقة وطرقها البرية والبحرية والجوية وخاصة خطوط الطاقة لإضعاف روسيا وعزلها وتدميرها، وكان سيد الموقف هنا المولود الجديد تنظيم “داعش” أو مايعرف بـ”الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام” وشهدنا ما شهدناه على مدى عشر سنوات من ربيعٍ عربي أسود حرق الأرض والبشر والشجر بوقودٍ ودعمٍ غربي، وتغاضٍ أو تناغمٍ وأحيانا كثيرة دعمٍ إقليمي لم تتأخر ساعة كشفه وفضح أسراره على لسان بعض من كانوا من القائمين عليه، وتكسَّر هذا “الربيع” على صخور الصمود في المنطقة وتحديداً في سوريا وبدعم روسي واضح وصريح وشرعي.
كانت الولايات المتحدة ومن معها من دول الغرب وعلى رأسهم الأفعى الرقطاء بريطانيا قد جهزوا سيناريوهات عدة لحصار روسيا وخنقها في المحيط الجيوسياسي وعزلها عن محيطها الإقليمي وحلفائها الدوليين تحديداً في منطقة آسيا، الصين، والهند على وجه الخصوص، والعدُّ لا ينتهي، فمن أحداث جورجيا عام 2008 إلى أحداث وحرب كارباخ بين أرمينيا وأذربيجان وقرغيزستان وكازاخستان مؤخراً، وصولاً إلى أوكرانيا ومروراً بها عام 2014 والتي أدت إلى الكثير من الأحداث والمتغيرات، وهدأت ساحتها لفترة تحضيرية خبثاً منهم وظناً منهم أنهم سينجحون في منطقة الشرق الأوسط ليتفرغوا بعدها إلى القضم في المحيط الجيوسياسي الروسي بخواصره وحدائقه الخلفية.
هذا جزءٌ بسيط من خط سير الأحداث المفتعلة غربياً في العالم كله، وهنا إذا دققنا بشكل بسيط جداً على حوامل هذه الأحداث لوجدنا أنها كانت جميعها بحجة الأمن والإستقرار ومكافحة الإرهاب، لكن في الحقيقة هي مخطط القضاء على دولٍ بعينها ومحاربة هذه الدول بالإرهاب ذاته الذي يدعي الغرب مكافحته، والصورة في منطقة الشرق الأوسط وأوكرانيا حالياً شاهد حقيقي على كل حرف نخطه.
اليوم يعيش العالم أخطر مرحلة يمر بها عبر التاريخ، وكما يقال بالعرف العربي “إنعكست الآية” فالإرهاب يصل إلى أوكرانيا ويقوي نفسه فيها، ومن ثم من أوكرانيا إلى العالم كله، فحرب أوكرانيا التي نجح الغرب في جر روسيا إليها بعد إستفزازها ومحاولات التعدي الصارخ على أمنها القومي جعلت الغرب يجن جنونه أمام سير العملية العسكرية الروسية الخاصة بنجاح في أوكرانيا للقضاء على النازيين الجدد ومنع دول حلف الناتو من الاقتراب من الحدود القومية الروسيا وتهديد مصالحها الوطنية بعد أن استنفذت كل إمكانات الحل السياسي بضغطٍ من دول الغرب أنفسهم، فراح هذا الغرب يرسل السلاح دون حسيب ورقيب إلى هذا البلد، بل تعدى ذلك بالسماح علناً وبكل وقاحة بأن يأتي المتطوعون الأجانب المرتزقة إلى أوكرانيا لمقاتلة روسيا دون ضمانات عن هوية هؤلاء المرتزقة وبيد من سيقع كل هذا السلاح المتطور، وهنا بيت القصيد.
فأسياد الديمقراطية بعلمٍ وعن وعي باتوا يشدّون عود وعصب الجماعات الإرهابية المتطرفة، وتحديداً وليدهم الأحدث تنظيم “داعش” الإرهابي الذي توعَّد روسيا ومنذ بداية عمليتها العسكرية ضده في سوريا بالويل والثبور، لكنه لم يأتِ على ذكر أمه أمريكا ولا عمه الإتحاد الأوروبي لأنهما يدعمانه بسخاء منقطع النظير بالمال والسلاح بكافة أنواعه بما فيه المحرم دولياً، وكان يعتقد أن كل شيء على مايرام، لكن هذا المولود الحرام والعاق يمد رأسه اليوم ويتوعد أوروبا ومن يسميهم بـ”الصليبيين” بالقتل والدمار والذبح، ودعت أئمته منذ أيام وقبلها بوقت قصير علناً في رسائل مكتوبة ومصورة، إلى التحضير لإستغلال فرصة الغليان الدولي وإضطراب الأحداث في دول الغرب من أجل الإنتقام من أعداء الله والإسلام كما يصفهم قادة التنظيم.
هذا التنظيم الإرهابي وغيره من التنظيمات الراديكالية من صنعه ودعمه وموَّله وخطط ويخطط له وسلَّحه هي الدول الغربية، وهذا لم يعد خافياً على أحد، اليوم ينقلب هذا الإبن العاق على من أوجده وربَّاه وترعرع على يديه عندما رأى الفرصة مؤاتية لذلك، إذاً، تتحمل هذه الدول أمام الله والعالم والقانون والضمير الإنساني المسؤولية كاملةً عن ماجرى وما يجري وما قد يجري من سفك دماء لشعوب العالم، وما هو قادمٌ لشعوب هذه الدول وفق تهديدات التنظيم الذي بدأ على مايبدو بالزحف نحو دول الغرب، بعد محاولة الحصول على السلاح الذي يصل إلى أوكرانيا لإستخدامه في عملياته في دول أوروبا، اذ دعت مجلة تابعة لتنظيم “القاعدة” أنصارها وحثتهم على إيجاد طريقة للحصول على بعض الأسلحة التي يتم تسليمها إلى المدنيين في أوكرانيا، وبعد ذلك استخدامها في شن هجمات ضد البلدان الأوروبية، وفي تسجيلٍ مصور دعا أحد المتحدثين بإسم تنظيم “داعش” في شهر نيسان أبريل الماضي إلى إطلاق حملة ثأر لمقتل زعيمه السابق “أبو إبراهيم الهاشمي القرشي” في غارةٍ أمريكية في شمال سوريا في فبراير /شباط.
ودعا هذا المتحدث حلفاء ومناصري وعناصر ومقاتلي وخلايا التنظيم النائمة في هذه البلدان للتحضير لعمليات إرهابية قد تجعل أوروبا كلها تغرق ببجر من الدماء، فهل يتحمل الشعب الأوربي هذه الكوارث كما تحمَّلها الشعب الأفغاني والعربي وغيره من الدول التي لطالما عانت خلال العقود السابقة من ويلات الحرب والإرهاب؟
هل سيتحمل الشعب الأوروبي هكذا ويلات وهو ينعم بالرفاهية والأمن والسلام، حين تتسبب سياسات قادته بتمدد هذا الإرهاب عبر دعمه وتمويله بالمال والسلاح والمعلومات الاستخباراتية وجوازات السفر والتسهيلات اللوجستية وغيرها، ما يسمح له بحرية الحركة وتنفيذ العمليات الإرهابية بسهولة في أي مكان في العالم؟
وهل تعرف وتمتلك المنظومة الأمنية الأوروبية والغربية ماهو ترياق هذا السم الذي صنعوه للعالم بأيديهم وعاد إليهم!؟.
أسئلة كثيرة تبحث لنفسها عن أجوبة .. لكن لاجواب واضح على أي منها.
هل خطر ببال الأجهزة الأمنية الأوروبية أن هذه التنظيمات يمكن أن تستغل ظروف هذه الحرب وتستثمر كل إمكاناتها الحيوية واللوجستية والظرفية وهذا التخبط في التعاطي في ظل إنشغالها في هذه الحرب للقضاء على روسيا؟.
وهل هم معميون عن ما يمكن أن تؤول إليه أعمالهم وغبائهم ونحن على أبواب “دبكات” إجتماعية لا يمكن السيطرة عليها في الوقت القريب، وستسهل حكماً أعمال تنظيم داعش لقتل أكبر عددٍ من الناس دون أن يستطيع المسؤولين عن الأمن الإجتماعي والقومي أخذ الحيطة والتدابير الأمنية العاجلة والناجعة؟، ومن سيتهمون في هذه الحالة!؟.
عليهم حكماً أن يقفوا أمام المرأة ويحققوا مع أنفسهم، ويحاكموا أنفسهم على شر ما إقترفت أيديهم دون أن يتحسبوا لهذه اللحظة، وعلى شعوبهم أن تحاكمهم شر المحاكمات، لأنه لايمكن لأي تنظيم أرهابي أن يعيش دون أوكسجين، ومن يعطيه هذه الأوكسجين غير راعيه؟، ومن هم رعاته ؟؟، أم هنالك من يريد أن يقنعنا بأن السماء تُـنـزِّل السلاح والمال والتمويل بالقفة للإرهابيين، أو كونهم يربحون معارك هنا وهناك، أو الأرض تخرج لهم من باطنها بعفو الله .. يكفي كذباً على البشر والتقليل من وعيهم ورجاحة عقولهم.
هم يعلمون طبيعة إنتشار التنظيمات الإرهابية بشكل دقيق ويعلمون خطرها على سكان بلدانهم الآمنين، يدركون بل يعلمون علم اليقين أنه تحت لواء تنظيم “داعش” الإرهابي ينضوي أكثر من 12 جماعة إرهابية موزعة ومنتشرة في مناطق مختلفة من دول آسيا وصولاً إلى أفريقيا والتي تتحول تدريجياً إلى مراكز تدريب وأعمال التنظيم الإرهابية، هل يحتاجون لمقالٍ مقتضب أو مفصل حتى يستفيقوا على هذا الخطر الداهم والذي يتحملون كامل المسؤولية عنه!؟. وبماذا يفيد البشر تحذير رئيس الاستخبارات الألمانية بأن تنظيم داعش يزداد قوةً وتحول إلى “شبكة لا مركزية”، وتحذيره من تنامي قوة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” رغم انهيار خلافته؟، في ذات الوقت الذي أكد فيه الكثير من الخبراء في شؤون الأمن والإرهاب على أن التنظيم قد تحول إلى شبكة قوية.
الأكثر من ذلك، بعد وصول العالم إلى هذه المرحلة من الأزمات الأمنية والإقتصادية والإجتماعية هنالك سؤال يطرح نفسه بقوة ألا وهو: إلى أي حد سوف تساعد هذه الذهنية في التفكير الغربي وهذه السياسات تنظيم داعش، ليس فقط في إستغلالها لأعماله الإرهابية بل في قدرته على إستقطاب المزيد من التائهين والهاربين والمحتاجين من شباب وأبناء الدول الفقيرة والمنكوبة بشتى أنواع النكبات في كل أنحاء العالم نتيجة سياسات الغرب والضغوط النفسية وهشاشة الحالة الإجتماعية والإقتصادية ؟، فهل يستفيق العالم على كابوسٍ مرعبٍ يستشري في كل الكوكب، ويمتلك القدرة كما الجيوش لتدمير كل مايريد!؟.
وهنا نعود ونكرر السؤال، من المسؤول عن هذا الحال الرهيب والمزري في العالم كله!؟، أليس من يشعلون الحروب والنزاعات ويستثمرون في الإرهاب ومن يفرضون العقوبات على الدول بحجة الدفاع عن الأمن والإستقرار العالميين هم المسؤولون عن ذلك!؟، فضاع الحابل بالنابل وقد يكون القادم أعظم …
وهنا نستذكر أن من سيطر في سوريا عام 2013 حتى عام 2015 على المحطة الحرارية في محافظة حلب كان تنظيم داعش الإرهابي، والإرهابي الذي قاد العملية حينها هو ذاته من شارك في تنفيذ تفجيرات ميترو باريس، والإرهابي الذي فجر نفسه في مطار بروكسل الدولي عام 2016 هو أبو وليد البلجيكي، أسماء كثيرة “خالد البكراوي أبو إدريس البلجيكي، نجم العشراوي، وغيرهم”، أسالوا مجلة “دابق” الداعشية عنهم.
صُـنَّـاع القرار في أوروبا .. هل يتعقلون؟، أم أن على شعوبهم أن يزيحوهم عن السلطة ليلحقوا بركب جونسون قبل فوات الأوان، فالمحرض على الإجرام ويتستر على المجرم هو مجرمٌ ومشارك في الجريمة وعقابه عقاب من نفذها.