كتب د . محمد محمود مرتضى | العماد والتجربة الجهادية السيّالة

الدكتور محمد محمود مرتضى | استاذ جامعي وباحث في شؤون الجماعات الإسلامية

يخبرنا التاريخ أن من أكثر عناصر الضعف خطورة لدى التنظيمات القتالية-الجهادية، أن هذه التنظيمات غالبًا ما تكون عرضة للتفكك إذا ما خسرت مجموعة من كوادرها، أو تعرضت لخسائر بشرية كبيرة. ويعود هذا الأمر، بشكل أساس، إلى التركيبة البنيوية التي تؤلف هذه الجماعات، أعني كونها طبيعة مغلقة تخضع لإجراءات معقدة ترتبط بآليات الانتساب. أضف إلى ذلك، أن الهيكليات التنظيمية يشوبها نوع من الانغلاق، ما يعيق عملية تبادل الخبرات داخل هذا الجسم.

وإذا نقلنا الحديث من التنظيمات وبنيتها، إلى الأفكار، فإن من أهم شروط ديمومة الفكرة وتجذرها، هي كونها فكرة سائلة (واستعمل هنا مصطلح زيغمونت باومن)، وأعني بالسائلة أو السيّالة، احتواء الفكرة على عناصر وخصائص تسمح لها بالاستمرار والتجدد.

والواقع أن احتواء الأفكار أو انتاجها، بشكل يحتوي على خصائص السيولة، ليس بالأمر المعجز، نظرًا للطبيعة التي تحكم إنتاج الأفكار وتسويقها، وهو أمر أقل تعقيدًا بكثير من تسييل التجربة العملية، والخبرات القيادية؛ لأن هذه الأخيرة تتوقف على توفر مجموعة معقدة من الإجراءات والعناصر والامكانيات والقابليات التي ينبغي صنع توليفة منها تسمح للخبرات بأن تكون ذات طبيعة سيّالة أو سائلة.

من هنا تحديدًا، نفهم لماذا عانت تاريخيًا، التنظيمات القتالية-الجهادية من تراجع وانحسار إذا ما تعرضت لهزات أو تصفيات في كوادرها.

إذا كان ما تقدم يمثل نوعًا من القاعدة التي أثبت التاريخ صحتها، فلماذا تعطلت هذه القاعدة في التجربة الجهادية لحزب الله؟ أو فلنقل لماذا لم تسرِ هذه القاعدة في تجربة حزب الله، رغم كل الخسائر في الكوادر التي تعرض لها الحزب؟
في خطاب للأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله في أعقاب اغتيال القائد الجهادي الكبير الحاج عماد مغنية، خاطب السيد نصر الله العدو الإسرائيلي بما معناه: إن الحاج عماد قد أنجز كل شيء قبل استشهاده. فما الذي أنجزه الحاج عماد؟

يصعب القول أن ما تم إنجازه بين العام 2006 (حرب تموز) وشباط 2008 (تاريخ استشهاد الحاج عماد)، هو ترميم كامل البنية العسكرية التي تضررت في الحرب، وإن كانت عمليات الترميم قد بدأت منذ الساعات الأولى لتوقف الاعمال القتالية.

لعل أهم عنصر من العناصر التي أنجزها العماد، هو عنصر جعل الخبرة الجهادية ذو طبيعة سيّالة يمكن نقلها من جيل الى جيل. ولا شك أن هذا الأمر لم يكن ليحصل لولا التركيبة الفريدة لحزب الله، والتي عمقها وجذرها عمليات الاستكشاف للطاقات الكامنة التي قادها الأمين العام مع الحاج عماد. وما يؤكد هذا الأمر ثلاث نقاط:
الأولى: تركيز السيد نصر الله المستمر على ثنائية “الحاج رضوان ورفاقه”.

الثانية: ثقافة حزب الله، والتي عبر عنها الحاج عماد في أحد التسجيلات، والتي يعترض فيها على وصف الحزب وجمهوره “بالحالة الإسلامية”، باعتبار أن مصطلح الحالة لا يعبر أو يشير الى تجذر هذه الجماعة المكونة للتنظيم. من هنا كان التوصيف المستمر والمصطلح الذي يؤكد عليه حزب الله في ثقافته هو أنه “أمة حزب الله”، بكل ما تعنيه كلمة أمة من معنى؛ لأن من أهم خصائص الأمة، أنها متجذرة، منتجة للقادة وللكوادر، لا تتوقف مسيرتها على شخص بعينه.

الثالثة: هي الواقع، إذ إنه مع الخسائر التي تلقاها الحزب لناحية نوعية الكوادر التي قدمها في مسيرته الجهادية، لم يكن الحزب ليستمر لولا تحويل التجربة الجهادية الى طبيعة سائلة. ويمكن بسهولة استحضار النماذج التاريخية الكثيرة التي تشير إلى اندثار الكثير من التنظيمات بمجرد تلقيها خسائر في قياداتها أقل بكثير من التي تلقاها الحزب، إن لجهة عدد هذه الكوادر، أو لناحية نوعيتها.

إن تحويل حزب الله حركته وجمهوره وبيئته الى أمة حزب الله، هو كلمة السر الأساسية في جعل كسر هذه المقاومة أمرًا عصيًا على التحقق؛ لأن الجماعة متى تحولت الى أمة حقيقية، فإنها تصبح ذات طبيعة سيالة، يستحيل وقف مسيرتها، أو تعطيل مسيرة تطورها.

العهد الإخباري

 

Exit mobile version