كتب د . محمد سيف الدين | ما هي دلالات أسماء أبرز الصواريخ الروسية؟
الدكتور محمد سيف الدين | متخصص في شؤون الأمن القومي الروسي والعلاقات الروسية الأطلسية.
يمكن اعتبار الحرب الدائرة في أوكرانيا -في وجهها العسكري-حرب الصواريخ من الدرجة الأولى، على الرغم من كونها شهدت أدواراً بارزة لجنود الميدان والدبابات والطائرات الخفيفة المسيّرة بصورةٍ لافتة. فعلى الجانبين، كانت أنواع الصواريخ وفاعليتها مدار الحديث والبحث سعياً وراء ارتقابٍ منطقي لسيناريوهات الختام.
وإذ تتفوق روسيا في مجال صناعة الصواريخ على قوى التحالف الأطلسي، وعلى الولايات المتحدة نفسها، لا بد من التمعن في مدى فاعلية هذه الأسلحة، وأكثر من ذلك، في دلالات التسميات التي تطلقها على صواريخها، والتي أضحت لافتةً إلى درجة تعبيرها عن الرؤية البعيدة التي يرسمها الكرملين لمستقبل البلاد، كقوةٍ عالمية.
ولا تختلف الدول عن بعضها البعض في سعيها لترويج صورتها المهابة والقوية. هكذا كانت طوال التاريخ، وهكذا ستظل. رسائل القوة مهمة ومطلوبة بالنسبة إلى الدول كما الخبز والماء. وبالنسبة إلى القوى المهددة والمستشعرة مخاطر متواصلة على وجودها، يكون ترويج صورة القدرة والمبالغة في تعظيمها أكثر إلحاحاً. هكذا تفعل القوى الكبرى اليوم حين تعطي أسلحتها مسمّياتٍ مرعبة، وتلفّها برداء الأسطرة والغموض، وتربطها بحكايات الأبطال الخارقين من الماضي، سعياً لتحقق هذه التمائم على أرض الواقع في المستقبل، أو على الأقل الاستفادة من هذا المناخ الذي تبثه في الجماهير وعند الأعداء، في إضفاء المزيد على مقدّرات الردع.
رسائل القوة في مسمّيات الصواريخ الروسية
في الاجتماع الأخير الذي ضمّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ووزير دفاعه سيرغي شويغو إلى كبار القادة العسكريين، جرى الإعلان عن تسلّم الجيش الروسي صواريخ “تسيركون” التي يكرر الروس وصفها بأنها “لا مثيل لها في العالم”، وعن قرب تسلّمه أيضاً صواريخ “سارمات” الاستثنائية بكل المقاييس. لكنّ الاسمين لا يبدوان عاديين، وهناك دلالات خلفهما، وخلف سلسلة الصواريخ الروسية فائقة التطور، خصوصاً تلك التي طُوّرت بعد عام 2003، التاريخ الذي أعاد فيه الرئيس الروسي تزخيم صناعة السلاح الروسية وتطويرها، والاستثمار فيها كدعامة أساسية لأمن البلاد واقتصادها. ومنذ ذلك الوقت، برزت مجموعة من الصواريخ التي سنتطرق إلى أهمها فحسب، خصوصاً تلك التي تتفوق على الأنواع النظيرة لها في منظومة “الناتو”.
ولا بد في هذا السياق من الإشارة إلى اختلاف المسمّيات التي تطلقها روسيا على صواريخها، مع المسمّيات التي يطلقها “الناتو” على تلك الصواريخ عينها. ذلك أن لكل واحدٍ منها اسماً مختلفاً عن بلد المنشأ وتصنيفاً محدداً لدى منظومة “الناتو”.
بدأت حلقة تطوير الصواريخ الاستراتيجية الروسية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في العام 1997 مع إنتاج “توبول أم Topol M”، ومعه كانت بداية تسميات “الناتو” للصواريخ الروسية العابرة للقارات بـ”الشيطان”. كان الشيطان بالنسبة إلى التحالف الأطلسي مجسداً بالقوة التدميرية التي يمكن لهذا السلاح أن يحدثها. بعد ذلك، ولّد الشيطان شياطين أخرى، كما سنرى مع الحديث عن الصواريخ الأكثر حداثة في الترسانة الروسية. وفي حين رأى فيه “الناتو” شيطاناً، كانت التسمية الروسية لـ”توبول” تشير إلى شجر الحور، نسبةً إلى طوله الذي يقدر بـ 22.7 متراً. ولا بد هنا من الإشارة إلى أن هذه الصواريخ بمعظمها تفوق بسرعتها سرعة الصوت، أي أنها تمتلك سرعةً تتجاوز 1 ماخ، الذي يعادل بدوره 1225 كيلومتراً في الساعة الواحدة.
أعيد تطوير “توبول” بصورةٍ متتالية، حتى اختبرت موسكو صاروخ “يارس Yars” المشابه لـ”توبول” عام 2007، وأدخلته في الخدمة بدءاً من عام 2010، والذي شكّل إضافة من نواح تقنية عديدة عن إمكانات سابقه. وتشير تسميته إلى اختصار الحروف الثلاثة الأولى من جملة “صاروخ الردع النووي” باللغة الروسية. شكّل “يارس” مفخرة الصواريخ العابرة للقارات لدى موسكو، باعتباره قادراً على إصابة أي نقطة على الكوكب تقريباً، مع إبقاء جزءٍ من خصائصه سرّية. ومثل سابقه، وصف “يارس” في قاموس التحالف الأطلسي بـ”الشيطان”.
بعد عام 2010، تسارعت وتيرة تطوير الأسلحة الروسية، وزادت قدراتها بصورةٍ لافتة، ويمكن تسجيل إشارة شديدة الأهمية، بتسارع وتيرة استبدال صواريخ أكثر حداثة بهذه الصواريخ التي تتفوق على مثيلاتها لدى “الناتو”، إذ وبسرعة، وفي الوقت الذي كانت خصائصهما تشغل مهندسي “الناتو” لفك شيفراتهما، تجاوزتهما موسكو إلى صواريخ أخرى مختلفة، منها ما هو مخصص للمواجهات الميدانية والدفاع الجوي والدفاع البحري، ومنها ما هو عابر للقارات بما يفوق “توبول” و”يارس”.
في حرب “إسرائيل” على لبنان عام 2006، وعلى غزة بعدها، برزت منظومة “كورنيت Kornet” الروسية التي شكلت مفاجأة كبيرة وقتها، وساهمت في هزيمة “إسرائيل”. صواريخ صغيرة ترمى من الكتف، لكن إصاباتها مدمّرة للدروع في أعتى الدبابات يومها. اللافت في مسمّى هذه المنظومة أنها اكتسبت اسماً جديداً لها في الميدان، أصبح أكثر شهرةً من اسمها في بلاد منشئها، وهو “قاهرة الميركافا”، الصواريخ المضادة للدروع الأكثر فتكاً في مفخرة الصناعات العسكرية الإسرائيلية.
وفي روسيا، تعني كورنيت “البوق”، وهي أيضاً رتبة عسكرية في جيش روسيا القيصرية. وبمعنى مماثل، كانت تسمية صواريخ “فاييفودا Voevoda” العابرة للقارات تشير إلى رتبة قائدٍ عسكري في الجيش القيصري أيضاً.
اسم آخر ظهر في فضاء الصناعات العسكرية الروسية، “كينجال Kinjal” أو الخنجر، أو Dague عند قوى “الناتو”، والذي شكل تطوراً بارزاً في قدرات القوات الروسية، واستخدم في الحرب الأوكرانية، بحسب ما أعلن وزير الدفاع الروسي. هو صاروخٌ باليستي يمكن إطلاقه من الجو، قد تصل سرعته إلى 10 ماخ، وقادر على إصابة أهداف على بعد ألفي كيلومتر بدقةٍ متناهية.
في تلك الفترة، ومع مشاركة القوات الروسية في الحرب السورية، تكثفت وتيرة الإعلان عن صواريخ جديدة، عبّرت مسمياتها عن نظرة المصنّعين لهذه الوسائط. وبدأوا يرون فيها جواهر وتحفاً فنيّة، ومصدر فخرٍ لروسيا كما الأعمال الفنيّة العظيمة، وأعلنت موسكو عن سلسلة من هذه “الجواهر” المبتكرة، ومنها تلك التي تسلمتها البحرية الروسية من طراز “ياخونت” Yakhont وتعني جوهرة الياقوت في اللغة الروسية القديمة، و”أونيكس” Onyx أي قشرة العقيق، و”باستيون” Bastion، وكلها تشكل منظومة صواريخ لحماية الحدود البحرية واستهداف التجمعات البحرية الكبيرة وحاملات الطائرات وسفن الإنزال، بالإضافة إلى الأهداف البرية.
وبعدها، كانت تسمية صواريخ “تسيركون” Tzirkon فرط الصوتية، واسمها يعود إلى معدن الزركون شديد البريق (رمزه الكيميائي ZrSiO4)، إلى درجة الشبه بالماس. وتصل سرعة هذا الصاروخ إلى 9 ماخ أي 9.5 كلم في الثانية الواحدة، وقد أصبح اليوم جاهزاً للاستخدام وفي متناول القوات الروسية. وهو قادر على إصابة أهداف على بعد ألف كيلومتر.
وعلى كثرتها، أضيفت إلى الترسانة الروسية صواريخ بمسميات دالّة، لم تستخدم بعد، مثل “روبيج Rubij” وتعني الحدود، و”أفانغارد Avangard” وتعني الطليعي، وقاذفة اللهب الثقيلة “توس TOS A1″، وراجمة الصواريخ الفريدة من نوعها “سميرتش ٍSmirtch” وتعني الإعصار، وهي قاذفة من 12 أنبوباً تضرب بسرعة فائقة صواريخ من عيار 300ملم مع قدرة على إصابة أهداف على بعد 90كلم، وتعد ثاني أقوى الأسلحة بعد الأسلحة النووية. فيما عدّت صواريخ “اسكندر أم Skander M” لا مثيل لها من حيث قدرتها على تدمير مقار القيادة وقواعد الطائرات ومنظومات الصواريخ المعادية بإصابات دقيقة على بعد 500 كلم، وتخصصها في رسم “النطاق المحرّم”، بحيث تمنع الخصوم من الحركة في نطاق تشغيلها، لتوصف بأنها سلاح القرن الحادي والعشرين، وتعدّها منظومة “الناتو” واحدةً من أخطر أسلحة روسيا.
والآن، تعمل روسيا منذ 2018 على تطوير صواريخ “بوريفستنيك Burevestnik” العاملة بالطاقة النووية ضمن سلسلة الصواريخ الاستراتيجية الجديدة (كروز) التي كشف عنها بوتين، ويسميها قاموس “الناتو” بـ”Skyfall”، واسمها باللغة الروسية يعني “طائر النوء” البحري الضخم، إحدى فصائل Albatraos الشهيرة.
لكن أكثر الأسماء دلالة ترك لأهم الأسلحة الصاروخية الروسية على الإطلاق، والذي أعلن بوتين أنه سيتم تسليمه للقوات الروسية قريباً، خلال إعلانه التوجهات العسكرية لعام 2023، وهو صاروخ “سارمات Sarmat”، الذي اكتسب سريعاً وصف “الشيطان 2” في قاموس “الناتو”، في إضافة إلى تسمية الشيطان الأولى على صاروخي “توبول” و”يارس”. وبحسب رئيس الوكالة الروسية للفضاء “روسكوزموس”، ديمتري روغوزين، فإن “سارمات” قادر على إصابة أهداف في نطاقات غير محدودة تقريباً، بالإضافة إلى سرعته الفائقة مقارنة بصواريخ “فوييفودا” ما يجعل من الصعب اعتراضه بأنظمة الدفاع الصاروخي”. لكن، ما علاقة التسمية برؤية روسيا لنفسها؟ لماذا “سارمات”؟
من هم السارماتيون؟
يشتق اسم “سارمات” من قبائل السارماتيين متعددي الأعراق، والتي عاشت بين القرنين الثالث قبل الميلاد والرابع الميلادي، أي قبل نشوء الإمارات السلافية، وأقامت دولة شديدة القوة في المنطقة الممتدة اليوم بين جبال الأورال شمالاً وإيران جنوباً وأوروبا الشرقية غرباً، حول شواطئ البحر الأسود وبحر آزوف.
خاض السارماتيون حروباً كثيرة مع القوى المنافسة لهم في تلك المنطقة، حتى سيطروا على السهوب الواسعة في شرق أوروبا، وساعدتهم في اكتساب مرونة في الحركة طبيعتهم البدوية التي كانت منسجمة مع فكرة التنقل والقتال وعدم الثبات في أرض واحدة تحتاج إلى الدفاع الدائم.
عرف السارماتيون كشعبٍ محاربِ وصبور بقدرة عالية على التحمل، تشترك النساء مع الرجال في الأعمال القتالية بقدرٍ متناسب من حيث المكانة والدور، حتى تبدو لافتةً أوجه الشبه بينهم وبين الشعب الروسي الذي اكتسب الصفات عينها بعد عقودٍ من الزمن، مع توحد الإمارات السلافية وقيام ما بات يعرف لاحقاً بـروسيا الحديثة، ويعتقد مؤرخون كثر أن السلاف ينحدرون من هذه القبائل، ويرجعون إليهم التاج الإمبراطوري الروسي الشهير “كوكوشنيك”. وينتسب إليهم الأوسيتيون والبولنديون أيضاً. ومن ناحية الديانة والمعتقد، يعدّ الشعب الصيني الذي يقدّس الأجداد المثل المعاصر الأقرب لهم، إلى جانب أدلة أخرى تشير إلى تقديسهم السيف والحيوانات واعتمادها كرموزٍ لقبائلهم.
كانت مهاراتهم القتالية تمنحهم امتيازاً عن الشعوب التي جاورتهم، إذ قاتلوا كفرسانٍ بالسيوف السارماتية الطويلة والفريدة والرماح والأقواس، من فوق ظهور الخيول. لهم آثار في مناطق روسيا وأوكرانيا والبلقان وشمال القوقاز، وفي بولندا أيضاً.
امتلك السارماتيون نوعاً أنثروبولوجياً خاصاً، الأمر الذي يحيلنا إلى طبيعة الصراع القائم الآن في أوكرانيا، وإلى رؤية المفكرين القائمين على التخطيط الاستراتيجي الروسي، والذين يرون في الفكرة الروسية ما يفوق وجود الدولة الروسية نفسها. ومن هنا، تأتي تسمية أعتى الأسلحة العابرة للقارات، وعنوان الأمن الاستراتيجي للدولة، وأداة الردع النووي الأكثر بروزاً، متصلةً بالسارماتيين. الأمر الذي يقود إلى التمعن في العقل الروسي، ونظرته إلى الذات، ثم إلى المستقبل. تنحو روسيا منحى إعادة تشكيل التاريخ الخاص بها كقوةٍ عالمية، امتدادها أوراسي، ومجال نشاط فكرتها يمتد على مساحة دولة السارماتيين، وزخم دفاعها عن فرصها تريد له أن يتشابه مع الزخم السارماتي من الناحية العسكرية. بطءٌ في الحركة والوسائل، وبأسٌ شديد في الانقضاض والفاعلية.
و”سارمات” الصاروخ، يحاكي هذه المِيزات. إنه رمحٌ عصري من رماح السارماتيين بطولٍ مبالغٍ فيه، يبادر به لحصد أكثر من عدو، كما كانت عادة فرسان السارماتيين باستخدام رماحهم لطعن أكثر من فارس. هذا المعنى يفسّر أيضاً تسمية “كينجال-الخنجر”، الصاروخ الآخر. إنها باقة من الرموز التي تضاف إلى باقة الجواهر الأخرى. شيءٌ من ترميز القوة ينعكس في قوة الترميز التي تعبّر عن مناخٍ مشحونٍ بالتاريخ، وبرسائل القوة، وبإحياء الحقائق التاريخية التي تعبّر عن هذه الشعوب، كرائدةٍ بين شعوب الأرض. إنه تأسيسٌ روسي على ما قبل روسيا القيصرية وبطرس الأكبر، لا بل قبل توحيد القبائل السلافية مع إيفان الرابع “الرهيب”. إنه الترميز المتمظهر بأبعد درجة من العمق حتى الآن، وهو الأكثر غموضاً بين الرموز التي تم إحياؤها مع بوتين وفلاسفته.