كتب د . محمد سيف الدين | ثلاث رسائل أميركية: سياقٌ واحدٌ وأبعادٌ مختلفة
الدكتور محمد سيف الدين | مدير عام المجلس الاقتصادي والاجتماعي في لبنان، دكتوراه في العلوم السياسية، متخصص في شؤون الأمن القومي الروسي والعلاقات الروسية الأطلسية.
في أيار/مايو 2011 عندما خرج الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما ليعلن قتل زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، كانت الولايات المتحدة قد تجاوزت أربع سنوات صعبة من أزمة مالية بدأت فيها، وتحولت إلى أزمة عالمية هي الأقسى منذ أزمة الكساد الأعظم عام 1929. يومذاك كانت الانتخابات الرئاسية الأميركية تقترب. ستة أشهرٍ فحسب، قبل أن يتخذ الأميركيون خيارهم، إما بالتجديد لأوباما ولايةً رئاسية جديدة، على الرغم من تبعات الأزمة المالية، وفقدان مئات الآلاف من الأميركيين منازلهم وثرواتهم، وإما اختيار رئيسٍ جمهوري، بعد أربع سنوات من حكم الديموقراطيين. والحقيقة أن خيار الناخب الأميركي في ذلك الوقت لم يكن هيّناً. فتفاعلات الأزمة وخسارتها، كان من الممكن أن تطيح أي رئيس قائم، فيما كان إرث جورج بوش الابن لا يزال ماثلاً في الأذهان، مع كل ما حمله من صخبٍ عالميٍ أدى إلى توسيع عداوات بلاده وخلق عداوات جديدة، وشوّه صورة الإمبراطورية العظمى التي كانت تبنيها طوال عقود.
الرسالة الأولى: نواصل الحرب على الإرهاب
اليوم، ومع اقتراب الانتخابات النصفية لاختيار أعضاء الكونغرس، يواجه الناخب الأميركي ظروفاً شبيهة بظروف تلك المرحلة، رئيس ديموقراطي في أدنى مستويات التأييد الشعبي، وإرث رئيسٍ جمهوري سابق فاقم عداوات بلاده مع العالم، إضافة إلى مستجداتٍ وعوامل أخرى خلقتها جائحة “كوفيد19″، والأزمة الأوكرانية، وحرب الطاقة، وأسعار العملات، ومنافسة المحمومة في مجال الإنتاج العلمي.. وميادين كثيرة أخرى.
مجدداً، يخرج الرئيس الأميركي جوزف بايدن على مشارف الانتخابات النصفية، ليعلن مقتل أمير تنظيم “القاعدة” أيمن الظواهري في كابل الأفغانية، باعتباره انتصاراً كبيراً لإدارته.
ويكتسب قتل الظواهري بالنسبة إلى بايدن أهمية لجملة أسباب، أهمها:
– تعزيز استمرارية الحرب على الإرهاب التي أطلقتها واشنطن قبل أكثر من عشرين عاماً.
– محاولة توجيه رسالة قوة بخصوص موقف بايدن الشخصي والحزبي، في ظل انتقادات لاذعة يتعرض لها، وتتهمه بالضعف في الداخل والخارج.
– ترميم آثار الانسحاب الأميركي الهزيل من أفغانستان، واستعادة صورة القوة القادرة على ضرب الإرهاب هناك، ومتابعة المصالح الأميركية بعد الانسحاب.
الرسالة الثانية: نواجه الصين بجرأة
انطلاقاً من الخطوة الأميركي سالفة الذكر، وفي الاتجاه نفسه، تكتسب زيارة بيلوسي لتايون أهمية كبيرة. فإلى جانب مواصلة الحرب على الإرهاب، تريد الإدارة الديموقراطية تأكيد استمرارية الأولوية الاستراتيجية الأميركية في مواجهة الصين، والحد من قدراتها، بدءاً من الداخل الصيني. وبهذا المعنى، تمثّل تايوان موطئ قدمٍ أميركي مثالي لتحفيز أزمةٍ يراد لها أن تكون خاصرةً رخوة في الجسم الصيني إلى مدى بعيد.
وبذلك، يخدم استمرار الأزمة التايوانية الاستراتيجية الأميركية تجاه الصين، بسيناريو الأزمة الطويلة غير القابلة للحل، أكثر مما يخدمها حلٌ سريع، ولو أتى مطابقاً لمصالح تايبيه على سبيل الافتراض. إنها الآن مجالٌ لاستثمار طويل في زعزعة الأعمدة الثابتة التي يقف عليها النمو المستمر للاقتصاد الصيني من جهة، وتلك الأعمدة التي يقف عليها الاستقرار الأمني الاستراتيجيّ الذي تنعم به الصين، إضافةً إلى تفاعلات أزمة بحر الصين الجنوبي، ومسائل العلاقات المتوترة بين الصين وكوريا الشمالية من جهة، ودول الشرق الأقصى الحليفة لواشنطن من جهةٍ ثانية.
هذا التصور للأهداف الأميركية من زيارة بيلوسي تايوان، عزّزته تصريحات رئيسة مجلس النواب الأميركي من هناك، حيث أكدت أن “التزام أميركا لا يزال ثابتاً تجاه تايوان وإلى عقودٍ مقبلة”.
إنها رسالة قوة ثانية في أسبوع واحد بعد رسالة قتل الظواهري. ومفاد هذه الرسالة من قلب تايوان أن الإدارة الديموقراطية ليست أقل فاعلية من إدارة ترامب الجمهورية، فيما يتعلّق بمواجهة الصين والحد من طموحاتها العالمية، وهو ما يمكن استثماره على وجه السرعة لتقوية موقف الديموقراطيين في الانتخابات النصفية، وتعزيز فرصهم في كسب ولاية رئاسية جديدة بعد سنتين.
وتكتسب زيارة بيلوسي تحديداً معنىً آخر مع استعادة الصين سجلّها الشخصي في العلاقة ببلادهم. فهي الشخصية السياسية التي توغّلت بالتدخل عميقاً في الشؤون الصينية عام 1989، حين دعمت الاحتجاجات التي خرجت ضد الحزب الشيوعي الحاكم، ثم حين زارت ساحة تيانانمن في قلب العاصمة الصينية بكين عام 1991، عندما كانت نائباً في مجلس النواب الأميركي عن ولاية كاليفورنيا رافعةً لافتة تحيي ذكرى المتظاهرين. تريد بيلوسي وحزبها اليوم إرسال إشارة صينية داخلية، من خلال استعادة ذكرى الزيارة التي أجرتها قبل ثلاثة عقود، من خلال تايوان.
جانبٌ آخر شديد الأهمية يمكن إضافته إلى ما سبق، يرتبط بالصراع المحموم على الإنتاج العلمي التكنولوجي، الذي وضعته بكين على رأس استراتيجيتها للسنوات الخمس المقبلة، من خلال إعلانها السعي لتحقيق “السيادة التكنولوجية” والوصول إلى مرحلة عدم الحاجة إلى التكنولوجيا الأجنبية مع إتمام تطبيق الخطة الخمسية. هذا الجانب المهم عبّر عنه لقاء بيلوسي في تايبيه برئيس مجلس إدارة شركة “تايوان لتصنيع أشباه الموصلات TSMC”. هذه الصناعة التي تحتل فيها تايوان موقع الصدارة إلى جانب كوريا الجنوبية، والتي تحاول واشنطن منع بكين من تطوير قدراتها في مجال الرقائق الإلكترونية، وتثبيت سيطرتها على هذا القطاع الذي خصّصت له 52 مليار دولار، الأسبوع الفائت، لخلق حوافز مفيدة لتطويره وإنتاج أشباه الموصلات.
وما من شكٍ في أن بكين تدرك هذه الأبعاد جيداً، ومعها تدرك أن رفع واشنطن منسوب التوتّر في الأزمة التايوانية أمرٌ لا مناص من الرد عليه والاستجابة له بطريقة ملائمة وحاسمة، وهو حكم الضرورة في هذه الحال تماماً كما وُضعت موسكو أمام ضرورة حتمية للذهاب بعيداً في أوكرانيا، ذلك أن أي استجابةٍ مترددة أو متأخرة تحقّق الغاية الأميركية الكاملة من الملف.
فما من سيناريو أكثر توافقاً معَ المصالح الاستراتيجية الأميركية من أزمة استنزافٍ طويلة للخصوم، سوى سيناريو تسليم الخصوم بمؤدّى الخطوات الأميركي. في أوكرانيا يعني ذلك استجابة روسية ضعيفة لخطوة كييف نحو “الناتو”، والسماح لها بمعاقبة سكان الدونباس على ميولهم نحو العلاقات الودية بروسيا، بكل ما يحمله ذلك من مندرجات استراتيجية ويومية، وبالتالي دخول “الناتو” بقيادة واشنطن في قلب تفاعلات الحياة السياسية والاجتماعية في روسيا نفسها، وبصورةٍ لا رجعة عنها.
وفي تايوان، يعني ذلك انسلاخ الجزيرة عن الصين بصورةٍ حاسمة لا رجعة عنها أيضاً، وتحوّلها إلى تهديدٍ إضافي لبكين، يستنزفها في سباق تسلحٍ من جهة، وفي جهودٍ سياسية واقتصادية مضنية على المدى الطويل من جهةٍ ثانية، فضلاً عن الرسالة الاجتماعية والسياسية التي يمكن أن يؤدّيها ذلك إلى الداخل الصيني، تماماً كما تؤدي الرسالة الأوكرانية إلى الداخل الروسي فيما لو استكملت كييف مشروعها الأطلسي من دون استجابة روسية حاسمة.
الرسالة الثالثة: أميركا إمبراطورية مسؤولة
تزامناً والتحذير اللافت للأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش من أن العالم تفصله “خطوة واحدة غير محسوبة” أو “زلة واحدة” عن حرب نووية مدمّرة إلى درجة “الإبادة”، وأنه يواجه مخاطر لم يشهدها منذ حقبة الحرب الباردة، واعتباره أننا “كنا محظوظين جداً حتى الآن” لعدم اندلاع تلك الحرب؛ كان بايدن يطلق تصريحاً في الاتجاه المعاكس، حين أعرب عن استعداد إدارته لمفاوضة روسيا “على وجه السرعة” بشأن إطار للحد من الأسلحة الاستراتيجية يحل محل معاهدة ستارت الجديدة التي تنتهي صلاحيتها عام 2026.
موقف بايدن رأى أنه “لطالما استندت صحة معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية إلى حدود متبادلة، وذات مغزى بين الولايات المتحدة وروسيا، وأنهما حتى في ذروة الحرب الباردة عملا معاً لدعم لضمان الاستقرار الاستراتيجي”. وأن “التفاوض يتطلب شريكاً راغباً يعمل بحسن نية”، معتبراً أن العملية الروسية في أوكرانيا أدّت إلى “زعزعة السلام في أوروبا وشكّلت تعدياً على المبادئ الأساسية للنظام الدولي”.
ويبدو أن الرئيس الأميركي يريد من دعوته روسيا والصين إلى تجديد الحدود النووية، التعبير عن صورة الإمبراطورية الأميركية المسؤولة عن الاستقرار العالمي، في الوقت الذي تنشط فيه إدارته في تحفيز حلف شمال الأطلسي نحو الحدود الروسية، وتحفيز كييف من خلال التسليح والدعم العسكري والسياسي على الصمود في وجه روسيا على مدى أطول، ما يعني غياب الاستقرار في شرقي أوروبا. إضافة إلى تسعير الخلاف بين الصين وتايوان في شرقي آسيا، ما يزعزع الاستقرار الاستراتيجي هناك، ربما عقوداً تالية من الزمن.
إذاً، هي رسالة معاكسة في اتجاه التوتر العالمي المهجوس باحتمالات اندلاع مواجهةٍ نووية من ناحية، للقول إن الخطوات الروسية والصينية هي التي تعزّز فرص اندلاع تلك المواجهة المرعبة. خصوصاً أن قدرات روسيا والصين النووية تمثّل ضماناً أمنياً استراتيجياً يمنع الولايات المتحدة من استخدام قوتها الفائقة في إخضاع الدولتين، وهذا عامل من أكثر العوامل ردعاً لواشنطن، وهو يرغمها على ممارسة سياسة الاحتواء بدلاً من التدخّل المباشر، كما فعلت في الدول التي لا تمتلك السلاح النووي.
في الحصيلة، نتيجتان كبيرتان: النتيجة الأولى أن الرسالتين: الأولى والثانية، تبدوان معاكستين للرسالة الثالثة، بل نافيتين لها. والنتيجة الثانية هي أنه في ختام الأمر، ها هي تايوان وأوكرانيا وأفغانستان، تبدو أقل أمناً. بل الاستقرار العالمي يبدو أكثر هشاشة منه في أي وقتٍ مضى، فيما إدارة بايدن لا تبدو أكثر قوة، في انتظار الانتخابات النصفية بعد أسابيع قليلة.