كتب د . محمد سيف الدين | الاستجابة الصينية للأحداث: تحوّلات أكثر حدّة؟
الدكتور محمد سيف الدين | متخصص في شؤون الأمن القومي الروسي والعلاقات الروسية الأطلسية.
تتقاطع معطيات ومستجدات كثيرة لترسم صورةً محدّثة لأهمية الاقتصاد الصيني بالنسبة إلى الاقتصاد العالمي، وللآفاق التي ينتظرها العالم لعلاقة هذه القوة العالمية بالقوى الأخرى، وخصوصاً أنها ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وأكبر مستهلك للطاقة فيه، بعد أن تحوّلت إلى مصنع العالم، بحيث تصنع نسب الأغلبية من كثير من السلع التي يحتاج إليها البشر يومياً، وتستهلك نسباً كبرى أخرى من منتوجات الدول الأخرى، الأمر الذي يجعلها سوقاً اقتصاديةً شديدة الأهمية حالياً، وأكثر أهمية مستقبلاً.
خلال العقود الأربعة الفائتة، أي منذ بدء تطبيق سياسة الإصلاح والانفتاح على العالم، زاد الاقتصاد الصيني نحو 50 ضعفاً. إنها نسبة زيادة هائلة جعلت الصين مولّد طاقة الاقتصاد العالمي الأكثر زخماً، فباتت في الأعوام الأخيرة قوة لا غنى عن مساهماتها في الاقتصاد الدولي، الذي اندمجت فيه ووزّعت استثماراتها في مجالاتها الواسعة، وتحولت إلى قوة بناءٍ في الدول الأخرى، من خلال استثماراتها في البنى التحتية الخارجية (سكك حديد، محطات طاقة، موانئ، مطارات، طرقات…).
وخلال الأزمة المالية العالمية في عام 2008، وما تبعها من ارتداداتٍ على اقتصادات العالم، كانت الصين المستثمر المنقذ، في أميركا أولاً، ثم عبر العالم. ففي حين كانت القوى الأخرى منهَكةً، بفعل تداعيات الانهيار المالي الأكبر، بادرت الصين إلى الاستفادة من الفرصة السانحة، ووسّعت قابليتها للانخراط في الاقتصاد الدولي، واستثمرت في الدول التي كانت تعاني كساداً، في مشاريع متوسطة وطويلة الأمد، حتى أضحت استثماراتها حاجةً ضرورية لعجلة النظام الاقتصادي الدولي، متجاوزةً الاختلافات الأيديولوجية والضجيج المتعاظم بشأن خطورة نموّها السريع على حصص الدول الأخرى في النظام الاقتصادي الدولي، وتالياً في النظام الدولي بصورةٍ عامة.
وطوال الأعوام الفائتة، لم تفقد الصين أسلوبها الذي يعتمد على فلسفة لاو تزو، التي توصي بالاندماج في التيار وخلق الحضور من خلال التناغم مع العالم. وزادت قيادة شي جين بينغ في فعّالية هذه الفلسفة من خلال انخراط الصين بهدوءٍ، ومن دون مشاكسة، في الاقتصاد العالمي، بعيداً عن تبني مواقف حادة في الأزمات الدولية، حتى وقتٍ قريب.
اليوم، بعد إطلاق الحملة الاستراتيجية الأميركية ضدها منذ عام 2012، ومع إعلان حرب اقتصادية عليها من جانب الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، تبدو الصين أكثر ميلاً إلى التعبير عن قوتها، ليس من الباب الفلسفي أو الخيار الاستراتيجي الذي يوجب ذلك بالضرورة، بل لأسبابٍ أخرى تتعلق بتزايد الضغوط الخارجية عليها، واستدراجها إلى الاشتباك قبل أن تتحول إلى قوةٍ لا مجال لمقارعتها. وملامح هذا التحول الأخير باتت باديةً، مع إطلاقها قبل أشهرٍ قليلة، استراتيجيتها الجديدة، التي ترمي من خلالها إلى تحقيق “السيادة التكنولوجية”، وهي العنوان الأكثر اعتماداً على الخارج بالنسبة إلى الاقتصاد الصيني.
ومع اتخاذ بكين مواقف شديدة الوضوح في الأزمة السورية، واستخدامها حق النقض “الفيتو” في أكثر من مناسبة، على مدى أعوام، ثم اتهامها من جانب الإدارة الأميركية السابقة بالمسؤولية عن تفشي فايروس “كوفيد 19″، وبالتالي التسبب بالجائحة العالمية، وبعد اندلاع الأزمة الأوكرانية الحالية واضطرارها إلى تعزيز موقفها الداعم لروسيا، ثم بعد تطوير علاقاتها بالأخيرة وبالجمهورية الإسلامية في إيران، وصولاً إلى موقفها الحالي تجاه التوتر الكبير الذي سببته زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي لتايوان، كانت الصين ترسم صورةً جديدةً للأعوام القليلة المقبلة من مستقبلها.
توتّرات متصاعدة في النظام
منذ اللحظة الأولى لإعلان الزيارة كاحتمالٍ قائمٍ، بدأت بكين ردها الجادّ، الذي يطال أبعاداً متعدّدة، منها ما هو ميداني وعسكري، ومنها ما هو أبعد مدىً، استراتيجياً وزمنياً. على المستوى الميداني، كانت هناك خطوات عسكرية لافتة ومعبّرة. لكن الأكثر أهمية، كان تلك الأخبار التي بدأت تتراكم لدى وكالات الأنباء ووسائل الإعلام العالمية. تصريحاتٌ صينية نارية وغير مسبوقة بشأن الخطوة الأميركية في تايوان. حسمٌ صيني لآفاق الأزمة، وأن تايوان لا يمكن أن تكون إلّا صينية، وأن بكين لا تتنازل عن اعتراف جزء كبير من دول العالم بمبداً “صين واحدة”، والذي يعترف بسيادتها على كل أقاليمها.
أبعد من ذلك، ومن دون أن يتضح الارتباط المباشر بالأزمة، انسحبت خمس مجموعات صينية كبرى من بورصة نيويورك. خبرٌ يأتي ضمن سياق عالمي متوتر تستبطن قوى أساسية فيه العداء لبكين، لكن ذلك لا يمنعها من الاعتماد على الأخيرة لمكافحة آثار الجائحة، وتنشيط عجلة الاقتصاد العالمي. وتُعَدّ المجموعات الخمس من أكبر مجموعات النفط في العالم، وهي تعيد انسحابها إلى صعوبة الاستمرار في سوق المال الأميركية، والمحافظة على تسجيلها في الولايات المتحدة بعد صدور قانون جديد في عام 2020 يُلزم أي شركة مدرجة في الولايات المتحدة بالحصول على تصديق على حساباتها من جانب شركة معتمدة من المنظمة المستقلة للمحاسبة، الأمر الذي يرتّب أعباء، إلى جانب مخاطره المتعلقة بأمن المعلومات بالنسبة إلى الشركات الصينية.
وفي بيئة تتلاءم مع هذه التطورات، تتزايد التهديدات التي تتلقاها الشركات بالشطب من “وول ستريت”، الأمر الذي يُنذر بمغادرة مجموعات أخرى عملاقة سوقَ المال الأميركية، وخصوصاً إذا أصرت الصين، أو الشركات الصينية، بصورةٍ أدق، على عدم الموافقة على السماح بسجلات التدقيق الخاصة بها. صراع القيود هذا مَحا حتى الآن 1.1 تريليون دولار من أسهم الشركات الصينية في أميركا.
قد يبدو ذلك متوقَّعاً ومقبولاً في المناخ الدولي الراهن، لكن خطورة ما يجري، بالنسبة إلى الولايات المتحدة، لا تقتصر على انتقال القوة الذي يمثله انتقال الأموال (بما فيها أسهم الشركات) من بورصة نيويورك إلى هونغ كونغ مثلاً، أو إلى أسواقٍ مالية أخرى، بل أكثر من ذلك: تكمن الخطورة في التحدي الكبير الذي يقترب، أكثر من أي وقتٍ مضى، وهو تحدي الصين، ومعها دول متعددة، للسطوة العالمية للدولار الأميركي، وبالتالي للنظام المالي العالمي، وتبعات ذلك على النظام الاقتصادي الدولي، وخصوصاً بعد التطورات المتسارعة في الاتجاهين: الاتجاه الأول تمثّله العقوبات الأميركية على الدول، التي تعاندها أو تنافسها (الصين، روسيا، إيران…)، بينما يتمثّل الاتجاه الثاني بالخطوات التي تتخذها هذه الدول لمواجهة تلك العقوبات.
فك ارتباط.. أم تسريع تحولات؟
تحاول الصين اليوم التعبير عن قدراتها في النظام الدولي، والإشارة إلى مخالبها، والتلويح بها. إنها المرة الأولى التي تبدو فيها مُبادِرةً إلى إظهار القوة العارية. على الدوام كانت الدبلوماسية الصينية مخمليةً في إدارة مواقفها في الساحة العالمية. كانت قوةً تعرف نفسها جيداً، وتدرك ما تريده تالياً. هي لم تتوقف عن كونها كذلك اليوم. لا يبدو الأمر على هذا النحو، وإنما أسلوب الدبلوماسية الصينية أولاً بات مغايراً، ثم ثانياً، تتخذ اليوم خطوات شديدة الدلالة، ولا يمكن إغفال تأثيراتها التحولية في نهج الصين في الخارج.
إذا تمكّنت بكين اليوم من تعزيز عملتها الوطنية في التبادلات العالمية، وعززت جاذبيتها للمستهلكين في الخارج، ونتحدث هنا عن أشواط طويلة قطعت مع شركاء مهمين، كروسيا وإيران مثلاً، فإن كل ذلك سوف يُعَدّ تحولاً حقيقياً في سياق مواجهةٍ طويلة وقاسية مقبلة.
إن هيمنة الدولار الأميركي، كعملة احتياط عالمية مسيطرة، قد تكون اليوم، للمرة الأولى، أمام خطرٍ حقيقي. مجمعات البحث الأميركية تقول ذلك بوتيرةٍ يومية. القوة المالية الغربية أيضاً باتت موضع شكّ، وهي في لحظة ما، إذا ما استعر الصراع أكثر، ستكون أمام امتحانٍ حقيقي. كيف يمكن تقويم الأصول الغربية بالدولار؟ وكيف يمكن تقويم قوة الدولار نفسه في الاتجاه المعاكس؟ وما هي موثوقية المؤسسات المالية الدولية تالياً؟ المناخ الحالي يفتح الباب على التشكيك في كل شيء.
ولولا أن الواقعية تستوجب الأخذ في الحسبان مشاركة الصين وروسيا بقوة في النظام الدولي الحالي (نظام القوى الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن) لذهب التحليل إلى حدّ رسم سيناريو إعادة تأسيس نظام عالمي جديد. البواعث والدوافع موجودة، لكن المآلات المنتظَرة لا بد من أنها تمنع ذلك. فما الذي يمكن لروسيا والصين تحصيله في نظام عالمي جديد أكثر من شراكة في النقض لكل ما لا يلائم مصالحهما؟ وإن كان هناك من سيناريو أكثر تلاؤماً مع تلك المصالح، فكم هي التكلفة باهظة من دون ذلك؟ إنهما من الأسئلة المنطقية التي تفرزها البيئة الحالية للعلاقات الدولية.
إن العقوبات المستمرة، والعقوبات كنهج ونسق سياسيَّين غربيَّين باتا راسخَين، لا بد من أنها تسرّع عملية إنشاء مسار اقتصادي موازٍ تقوده الصين. إنه مدخل وباعثٌ متين لمسار كهذا. الأزمة الأوكرانية أعطت إشارات إلى ذلك، بحيث عزّزت اتجاه القوى المعادية لواشنطن نحو بكين، ونحو العملة الصينية تحديداً. إقصاء روسيا عن “سويفت”، على سبيل المثال، أعطى إشاراتٍ منذرة لجميع “الآخرين” غير الغربيين. أنتم لستم شركاء في النظام، بل “مستخدمون” فحسب. الآخرون يريدون الشراكة، وهذا ما يعلنونه مع صبيحة كل يوم. في قمة “بريكس” الأخيرة، كان الإعلان مدوياً، وكانت طلبات الانضمام الجديدة أكثف تعبيراً عن ذلك.
الانقسامات المتوقَّعة الآن في النظام الاقتصادي الدولي، وفي النظام المالي، لا يمكن غض الطرف عنها، والركون إلى احتمالاتها. سوف تشكّل في المستقبل القريب تصدعاتٍ شديدة الخطورة، قد تُحْدث صدامات بين القوى الكبرى. إنها أكبر أسباب الحروب. الثروات الكثيرة تُنتج حروباً أكثر مما تُنتج المجاعات. إنها قاعدةٌ تاريخية بارزة. في الغالب، الصراع على الثروة أكثر دمويةً من الصراع على القُوت.
في أوكرانيا، كشفت الولايات المتحدة، ومعها الحلفاء، وجهاً شديد التهديد للآخرين، يتمثّل بمدى سيطرتها على النظام المالي العالمي. الجميع كان يعلم بذلك، لكن رؤيته يتحقق ويدمّر أمرٌ آخر. هذا بالتحديد ما يُتوقع أن يحفّز القوى الأخرى على استكمال مساراتها لإنتاج أنظمة خاصة، وأكثر أهمية من ذلك: تطوير استقلالية ذاتية وخفض الاعتمادية. روسيا، مثلاً، أنتجت نظامها الخاص للتحويلات المصرفية المعروف باسم “أس بي أف أس” (SPFS). الصين، من ناحيتها، تطور نظام دفعٍ عابراً للحدود بين البنوك، يُعرف باسم “سيبس” (CIPS).
لكنّ ذلك لا يمكن أن يتم على الأرجح، أو أن يستكمل نتائجه المرجوة، من خلال اقتصادٍ واحد مهما كان قوياً. الكلمة السحرية هنا هي “الشراكة”. وهي الكلمة التي تتمحور حولها الاتجاهات الجديدة في النظام الدولي التي تمثلها القوى الصاعدة، في مؤسساتها ومنظماتها وسياقات التعاون بينها. وهي، أيضاً، نفسها الكلمة الغائبة عن النظام الدولي خلال العقود الأخيرة، وهو ما أنتج انفجار النظام هذا، الذي تُصيبنا يومياً شظاياه.