الدكتور محمد سيد أحمد | كاتب وباحث مصري
في الذكرى السنوية لميلاد الزعيم الاستثنائي في تاريخ وحياة المصريين والأمة العربية بل والعالم أجمع, خالد الذكر جمال عبد الناصر تجد نفسك في حيرة عن ماذا تكتب ؟ فقد كتبنا مرارا وتكرارا وكتب كثيرون غيرنا عن سيرة الزعيم ومشواره منذ الطفولة وحتى يوم رحيله في ليلة الإسراء والمعراج في الثامن والعشرين من سبتمبر عام 1970, وملئت الكثير من الصفحات والمجلدات حول تجربته الرائدة ومشروعه الوطني والقومي, وانتصاراته وانكساراته.
وعلى مدار ما يزيد عن نصف قرن منذ رحيله وهو حاضرا في تاريخ بلده وأمته والعالم, وتدور حوله السجالات سواء بين محبيه أو أعدائه من شهد وعاش تجربته أو من لم يشهدها ويعايشها, وفي المحن والأزمات يتم استحضار سيرته, وفي الثورات الشعبية المطالبة بالحرية والعدل والمساواة حول العالم ترفع صوره كأيقونة للثائر الحق, وفي المواقف البطلة والشجاعة المتصدية لأعداء الأمة تستحضر كلماته, وتهتف الجماهير باسمه في كل مناسبة وطنية وقومية.
وفي ذكرى ميلاد الزعيم هذا العام 15 يناير 2023 لم أجد أهم من العدالة الاجتماعية لأتحدث عنها فهي الفريضة الغائبة تاريخياً في بلادنا, فالمجتمع المصري أحد المجتمعات التي ناضل فيها الفقراء والكادحون من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية على مر العصور, فمنذ العصر الفرعوني والفقراء والكادحون يطالبون بالعدالة الاجتماعية من الحاكم وتسجل جدران المعابد الفرعونية العديد من القصص والروايات التي تؤكد كلامنا وتدعمه فما شكوى الفلاح الفصيح للفرعون الآله من جور وظلم موظفيه إلا مطالبة بالعدالة الاجتماعية, وما نضال الشعب المصري ضد قوى الاحتلال عبر التاريخ القديم والحديث إلا بهدف التحرر من الاستغلال والحصول على حقوقهم المشروعة في خيرات بلادهم.
وفي العصر الحديث الذى يؤرخ له بالحملة الفرنسية على مصر والتي تولى بعدها محمد علي باشا مقاليد الحكم بإرادة شعبية, كان المطلب الأول لجموع المصريين هو تحقيق قدر ما من العدالة الاجتماعية خاصة بين الفلاحين الذين كانوا يعانون أشد المعاناة في ظل نظام اقتصادي ظالم يعرف بنظام الإلتزام, لكن للأسف الشديد قام محمد علي وأبنائه وأحفاده من بعده بتأسيس نظام اقتصادي جديد عرف بنظام الاحتكار حيث أصبح الوالي هو المالك الوحيد للأرض الزراعية وبذلك تحولنا لنظام أشد ظلماً وقهراً استمر لما يقرب من قرن ونصف من الزمان.
وعندما جاءت ثورة 23 يوليو 1952 قام جمال عبد الناصر بالانتصار للفقراء والكادحين من الشعب المصري وعلى رأسهم الفلاحين فكانت قوانين الاصلاح الزراعي التي انتزعت الأرض من الاقطاعيين لتوزع على الفلاحين ليشعروا بالعدالة الاجتماعية المفقودة, ثم كانت جملة السياسات المنحازة للفقراء والكادحين والمهمشين الذين كانوا يمثلون أكثر من 80 % من الشعب المصري فتغيرت الخريطة الطبقية تماما حيث تشكلت الطبقة الوسطى المصرية التي تراوحت تقديراتها بين 35 و45 % وفقا للتقارير والدراسات العلمية في مطلع السبعينيات ويرجع ذلك لوضع جمال عبد الناصر قضية العدالة الاجتماعية في مقدمة أولوياته.
ومع صعود الرئيس السادات لسدة الحكم قرر التخلي عن السياسات المنحازة للفقراء والكادحين والمهمشين والتي حققت لهم قدر لا بأس به من العدالة الاجتماعية, فكانت سياسات الانفتاح الاقتصادي وإطلاق آليات السوق وتبنى السياسة الرأسمالية التابعة وهي السياسات التي تعمل لصالح الطبقات والفئات والشرائح العليا داخل المجتمع وتزيد من معاناة الطبقات والفئات والشرائح الوسطى والدنيا, ومع مرور الوقت بدأت معاناة الفقراء تعود من جديد وبدأت مناداتهم بتحقيق العدالة الاجتماعية وكانت انتفاضة الخبز في 18 و19 يناير 1977 خير شاهد وخير دليل.
وجاء مبارك ليسير على نفس نهج السادات ووفقا لنفس السياسات التي تعمق الفجوة بين الأغنياء والفقراء, وخلال فترة حكمه شهدت مصر ظواهر غريبة منها ظاهرة الفقر الانتحاري, حيث قام بعض المصريين بالانتحار نتيجة الفقر, وهناك ذكرى أليمه لشاب مصري قام بالانتحار لأنه غير لائق اجتماعيا, ففي عام 2002 طالعتنا الصحف بخبر انتحار الشاب عبد الحميد شتا ابن قرية ميت الفرماوي مركز ميت غمر بمحافظة الدقهلية, وهو ابن فلاح مصري بسيط تفوق دراسيا وكافح هو وأسرته حتى تخرج بامتياز من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية, وتقدم لامتحانات الخارجية للالتحاق بالسلك الدبلوماسي, واجتاز الاختبارات بنجاح وحاز على المركز الأول, وعندما جاء موعد إعلان النتيجة وجد أسمه من بين المستبعدين وبجوار الاسم عبارة ” غير لائق اجتماعيا “, وفي تلك اللحظة قرر الانتحار وقام بإلقاء نفسه في النيل.
وانتهت فترة حكم مبارك بقيام ثورة 25 يناير 2011 التي كانت أهم مطالبها هي تحقيق العدالة الاجتماعية, والسؤال الذي يطرح نفسه الآن وبعد مرور اثنى عشر عاما على رحيل مبارك من سدة الحكم هل تحققت العدالة الاجتماعية ؟ وهل اختفى الفقر الانتحاري ؟ وهل يشعر أبناء الفقراء المتفوقون أنهم لائقون اجتماعيا ؟ أسئلة لا تحتاج للاجتهاد فوفقاً لإحصائية حديثة صادرة عن مكتب النائب العام تقول أن مصر شهدت 2584 حالة انتحار خلال عام 2021, ومع اشتداد الأزمة الاقتصادية اليوم تزداد نسب الفقر الانتحاري, وتطالعنا الأخبار يومياً عبر وسائل التواصل الاجتماعي عن العشرات ينتحرون بسبب الفقر, وكان أخرهم هذا الأسبوع بانتحار علي أبو زيد ابن فارسكور بدمياط والذي تخلص من حياته لأنه لم يتمكن من دفع مديونية ألف جنيه لشركة كهرباء فارسكور وظل منزله في ظلام دامس هو وأولاده, وهو ما يجعلنا نترحم على أيام زعيم الفقراء التي لم نسمع فيها عن مثل هذه الظواهر لأن سياساته كانت داعمة للفقراء والكادحين والمهمشين ودافعة على الأمل في المستقبل, وهو ما نفتقده اليوم فالمستقبل تشوبه حالة من الضباب الشديد, اللهم بلغت اللهم فاشهد.