الدكتور محمد سيد أحمد | كاتب وباحث مصري
ليست المرة الأولى التي نكتب فيها عن الأزمة الروسية – الأوكرانية فقد حاولنا كثيرا استعراض أبعاد الأزمة قبل وبعد بدء الحرب, واليوم وبعد مرور ما يزيد عن ثمانية أشهر من العملية العسكرية التي أعلن عنها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 24 فبراير 2022 وكان يؤكد منذ البداية أنها عملية عسكرية محدودة تستهدف إقالة الحكومة الأوكرانية التي تسعى للانضمام لحلف شمال الأطلسي ( الناتو ) والتي ستجعل قوات الحلف الغربي قابعة على الحدود الروسية وهو ما يشكل تهديدا للأمن القومي الروسي, لكن مرت الأيام واتسعت دائرة الحرب, فمع بدأ العملية بعدد من الغارات الجوية التي استهدفت المواقع العسكرية الأوكرانية, ودخول الدبابات عبر حدود بيلاروسيا أعلن الرئيس الأوكراني زيلينسكي الأحكام العرفية في جميع أنحاء البلاد, وأطلقت صفارات الانذار من الغارات الجوية طوال اليوم, وتدهورت البنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات بفعل الهجمات الالكترونية والقصف الروسي, وتمت السيطرة من القوات الروسية على العديد من المباني والمدن الأوكرانية بما في ذلك محطة تشيرنوبيل النووية, وهنا أعلن مسؤول دفاعي أمريكي بأن القوات الروسية سوف ” تواجه مقاومة أكبر مما توقعت “, وكان ذلك مؤشرا على أن الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا دخلت على الخط لمساعدة أوكرانيا في محاولة لإطالة أمد الحرب بهدف استنزاف روسيا وإنهاك قواتها المسلحة وتعطيل ظهور نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب.
وتعود التوترات الروسية – الأوكرانية إلى العصور الوسطى, فكلا البلدين لديهما جذور في الدولة السلافية الشرقية المسماة ( كييف روس ), لذلك لا عجب عندما يتحدث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن ( شعب واحد ), وكان مسار هاتين الأمتين عبر التاريخ مختلفا, ونشأت عنه لغتان وثقافتان مختلفتان رغم قرابتهما, فبينما تطورت روسيا سياسيا إلى إمبراطورية, لم تنجح أوكرانيا في بناء دولتها, وفي القرن السابع عشر أصبحت مساحات واسعة من أوكرانيا الحالية جزءاً من الإمبراطورية الروسية, ولكن بعد سقوط الإمبراطورية الروسية في عام 1917, استقلت أوكرانيا لفترة وجيزة قبل أن تقوم روسيا السوفيتية بضمها من جديد, وفي ديسمبر عام 1991 كانت أوكرانيا بالإضافة إلى بيلاروسيا من بين الجمهوريات التي دقت المسمار الأخير في نعش الاتحاد السوفيتي, إلا أن موسكو أرادت الاحتفاظ بنفوذها عن طريق تأسيس رابطة الدول المستقلة ( جي يو إس ) وكان الكرملين وقتها يظن أن بإمكانه السيطرة على أوكرانيا من خلال شحنات الغاز الرخيص لكن ذلك لم يحدث, وبينما تمكنت روسيا من بناء تحالف وثيق مع بيلاروسيا, كانت عيون أوكرانيا مسلطة دائما صوب الغرب, وهو ما كان سبب لقلق وتوتر روسيا التي تعلم أن مثل هذه العلاقة تشكل تهديدا مباشرا لأمنها القومي.
عندما انهار الاتحاد السوفيتي مطلع تسعينيات القرن الماضي كانت أوكرانيا تمتلك ثالث أكبر ترسانة نووية في العالم, وقامت الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا بنزع الأسلحة النووية الأوكرانية, وتخلت كييف عن مئات الرؤوس النووية إلى روسيا مقابل ضمانات أمنية لحمايتها من أي هجوم روسي محتمل, وشهدت موسكو وكييف أول أزمة دبلوماسية في عهد الرئيس فلاديمير بوتين ففي عام 2003 بدأت روسيا في بناء سد في مضيق كريتش باتجاه جزيرة ( كوسا توسلا ) الأوكرانية واعتبرت كييف ذلك محاولة لإعادة ترسيم حدود جديدة بين البلدين, وازدادت حدة الصراع, ولم يتوقف إلا بلقاء ثنائي بين الرئيسين الروسي والأوكراني تم من خلاله الاتفاق على وقف بناء السد, ولكن الصداقة المعلنة بين البلدين بدأت تظهر بها العديد من التشققات, وأثناء الانتخابات الرئاسية في أوكرانيا عام 2004 دعمت روسيا المرشح القريب منها فيكتور يانوكوفيتش, إلا أن الثورة البرتقالية المدعومة غربيا حالت دون فوزه, وفاز بدلا منه فيكتور يوشتشينكو القريب من الغرب, وخلال فترة رئاسته قطعت روسيا امدادات الغاز عن أوكرانيا مرتين في عامي 2006 و2009 , كما قطعت أيضا امدادات الغاز إلى أوروبا المارة عبر الأراضي الأوكرانية, وفي عام 2008 حاول الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش إدماج أوكرانيا وجورجيا في حلف شمال الأطلسي ( الناتو ) وقبول عضويتهما من خلال برنامج تحضيري, لكن قوبل ذلك باحتجاج الرئيس بوتين, واعلنت موسكو بشكل واضح أنها لن تقبل الاستقلال التام لأوكرانيا, ورغم فشل أوكرانيا في الانضمام للناتو إلا أنها حاولت الارتباط بالغرب من خلال اتفاقية تعاون مع الاتحاد الأوروبي في عام 2013, وبعد أشهر قليلة مارست موسكو ضغوطا اقتصادية هائلة على كييف وضيقت على الواردات إلى أوكرانيا, وفي عام 2014 نفذت روسيا العديد من العمليات العسكرية في الأراضي الأوكرانية, بعد احتجاجات الميدان الأوروبي وعزل الرئيس الأوكراني المدعوم روسيا فيكتور يانوكوفيتش, بعد ذلك ضمت روسيا القرم تحت سيادتها, بعد الاستفتاء في القرم حيث صوت سكان القرم لصالح الانضمام إلى روسيا الاتحادية, بعد ذلك تصاعدت مظاهرات الجماعات الانفصالية المؤيدة لروسيا في دونباس, مما أدى إلى حدوث صراع مسلح بين الحكومة الأوكرانية والجماعات الانفصالية المدعومة من روسيا, واستمر الصراع حتى اعترفت روسيا بجمهورية دونيتسك الشعبية وجمهورية لوغانسك الشعبية كدولتين مستقلتين عن أوكرانيا في مطلع العام 2022 وقبل أيام من العملية العسكرية التي أطلقها الرئيس بوتين لبدء شرارة الحرب.
واستمرت الحرب الروسية – الأوكرانية لما يزيد الآن عن ثمانية أشهر وهى في الأصل حرب روسية – أمريكية تتم بالوكالة على الأرض الأوكرانية, وكانت روسيا تعتقد أنها لن تستمر طويلا, لكن التصعيد الغربي والدعم الكبير لأوكرانيا أطال أمد الحرب, وهنا استخدم كلا الطرفين كل أوراقه المتاحة ففي الوقت الذي فرض الغرب عقوبات وحصار اقتصادي كبير على روسيا, ردت روسيا بالمثل وقامت باستخدام الورقة ذاتها حيث منعت امدادات الطاقة المتجهة صوب أوروبا مما أصاب الدول الأوروبية بشلل تام وأغلقت معظم مصانعها المعتمدة بشكل رئيس على مصادر الطاقة الروسية, هذا إلى جانب ورقة الحبوب التي تنذر بأزمة غذاء وهو ما جعل الشارع الأوروبي ينتفض في وجه حكوماته من أجل الانسحاب من دعم أوكرانيا في حربها مع روسيا, ومع اقتراب فصل الشتاء أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا في مأزق شديد, لذلك لا عجب حين تخرج علينا صحيفة واشنطن بوست بتصريحات لمصادر بالإدارة الأمريكية تؤكد أن ( زيلنسكي أصبح مطالبا من واشنطن بالتفاوض مع موسكو ), وبالطبع متوقع أن يقدم تنازلات, وما يؤكد ذلك ويدعمه هو زيارة مستشار الأمن القومي الأمريكي لكييف من أجل إعلان نية زيلنسكي للتفاوض, مع قرب انتخابات التجديد النصفي للجونجرس والتي من المتوقع أن يكتسحها الجمهوريين الذين أكدوا أنهم سيوقفون دعم أوكرانيا الذي بات يشكل عبء اقتصادي وسياسي على أمريكا في ظل أزمة الطاقة والأزمة المالية الراهنة, وهو ما يعني انتصار روسيا وقرب إعلان نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب, اللهم بلغت اللهم فاشهد.