الدكتور عدنان منصور | وزير الخارجية اللبناني الأسبق
لم تكن الزعامة التي هبطت فجأة على سعد الحريري، بعد اغتيال والده الرئيس رفيق الحريري بالأمر السهل. إذ جاءت بعد تطورات وأحداث خطيرة شهدها لبنان على مختلف الصعد.
هذا الاغتيال ـ الكارثة، أدّى الى انقسام البلد عمودياً، وظهور حالة من الفوضى، والكراهية، والتعصّب، والاصطفاف الطائفي والمذهبي والسياسي، لم يشهد لبنان مثل حدّتها والتي جاءت نتيجة للتجييش المتعمّد والمفتعل الذي تجاوز كلّ حدود، وأدّى الى انقسام البلاد حول القضايا التي ترتبط بها داخلياً وإقليمياً ودولياً، وظهور مشهد من الفوضى والتشنّج، وتصفية الحسابات على الساحة اللبنانية، لا تزال آثارها تتفاعل لدى الأطراف السياسية، والمكونات الاجتماعية والروحية في لبنان حتى وقتنا الحاضر.
هذه الكراهية، والنبرة العالية المتطرفة شقت طريقها وسط الصفوف، خرجت من أفواه كثيرة ضدّ آخرين، وضدّ جهات شقيقة وصديقة، تلقت ما تلقته من الشتائم والسباب، والحقد الأعمى، والسهام المسمومة طالت شعوبها ورموزها وقيَمها، وتاريخها، دون ضوابط او حدّ أدنى من الأصول واللياقات والأعراف.
تجاه هذا الواقع، وجد اللبنانيون أنّ “الزعيم الوريث” عمد الى التموضع والاصطفاف الى جانب فريق ضدّ آخر. وعوضاً من ان يمتصّ الانقسام، ويظهر كرمز وطني موحّد لكلّ اللبنانيين، أطلق العنان لفريقه دون تحفظ أو قيد او شرط، أو الأخذ بظروف البلد والحسابات السليمة، وخطورة التطورات والأوضاع الصعبة، والحساسيات السائدة فيه داخل المكونات السياسية، لا سيما بعد اغتيال الرئيس الحريري.
لقد آثر “الرئيس الوريث”، منذ اللحظة الأولى شدّ العصب الطائفي، وبرع في العزف على الوتر الطائفي ـ المذهبي، دون أن يأخذ في الحسبان، أنّ هذا العزف، سيولد شرخاً كبيراً غير معهود بين طائفتين إسلاميتين لم تشهد مثله من قبل، حيث ارتفعت أصوات عالية النبرة في تياره، ذهبت بعيداً في تطرفها، وكراهيتها، واستفزازها، وتصريحاتها الخارجة عن المألوف، عاملة على التفرقة، بدلاً من رصّ الصفوف، والعمل على تعزيز الوفاق والعيش الواحد.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحدّ، بل ناصب “الزعيم الوريث” العداء لسورية ونظامها، ولرئيسها بالذات، وصبّ جامّ غضبه على المقاومة، رافضاً وجودها بالشكل والأساس. ومقابل ذلك، لم يتردّد “الزعيم الوريث” في الانحياز الى فريق من الأفرقاء داخلياً، وإقليمياً ودولياً.
كانت الزعامة التي هبطت عليه بالمظلة تحتاج الى القيادة المتميّزة، والى الكاريزما الشخصية والسياسية والقيادية، التي تجسد الزعامة، إلا أنّ “الزعيم الوريث”، لم تكن له التجربة والخبرة، والقرارات والمواقف الشجاعة الثابتة. فالقرار غالباً ما كان يحيكه البعض من المقرّبين، والمستشارين. فكان هناك هوة بين الزعامة والقيادة، فالزعامة بحاجة الى قائد يصونها، يبلورها، يعززها، ويقوّي حضورها.
وهذا ما لم نجده عند سعد الحريري، حيث كثيراً ما كانت قيادته تشهد على الدوام حالة من التخبّط، والتذبذب، والتردّد، وتغييراً في المواقف، والارتجال، وحتى التهوّر في اتخاذ قرار حساس عند أكثر من استحقاق.
لقد تسلّق ظهر تيار المستقبل وزعيمه، أكثر من قطب سياسي، او طامح لزعامة، عزز حضوره، وموقعه، وكتلته مستفيداً من رصيد الرئيس الراحل، وإرث الشيخ سعد وتياره، فإذا بهؤلاء يتقدّمون، ويعزّزون حضورهم المتنامي، فيما شعبية الشيخ سعد وتياره تتراجع وتتآكل شيئاً فشيئاً.
كانت القيادة تحتاج الى “زعيم” يحضر على الأرض، وبين أبناء بلده، وأن لا تقتصر زعامته على طائفته، أو ان يغيب عن وطنه في أحلك الظروف، لا يأتي إليه إلا في المناسبات، بحيث تصبح إقامة “الزعيم الوريث” في الخارج هي القاعدة، ومكوثه في الوطن لتمضية إجازة فيه، هو الاستثناء.
لقد ورث الشيخ سعد الحريري ثروة كبيرة، تبدّد الجزء الأكبر منها، وورث منشآت وعقارات تمّت تصفيتها في غالبيتها. ثروة تراجعت معه، كما تراجعت قيادته وزعامته. جيّرت له شعبية والده، ففرّط بها، بعد ان التصقت به حاشية من المنتفعين، والانتهازيين، والوصوليين،
والمنافقين، والباحثين عن زعامة، ومراكز نفوذ، ومناصب. أخذوه الى ملعب ضيّق، منفصل عن مساحة الوطن، منه يصبّ في كلّ مرة أثناء مهرجاناته الشعبية، هجومه على المقاومة دون الأخذ بالاعتبار القاعدة الشعبية العريضة المؤيدة لها. أما البعض الآخر منهم، فقد انقضّوا عليه، ينتفدونه، يهاجمونه، يؤلّبون أنصاره ضدّه، في الوقت الذي يلهثون وراء زعامة، ويتطلعون الى حكومة علّهم يرثونها منه. وما أكثر المنافقين والوصوليّين الذين يطمحون إليها، كالذي نراه في واحد من الزاحفين اليوم على بطنه، وهو يقدّم أوراق اعتماده للخارج مسبقاً، بانتقاداته التافهة، ومواقفه الانتهازية الرخيصة المبتذلة، وعدائه السافر لخط المقاومة وأنصارها، عله يحظى ببركة الجهات الخارجية ورضاها .
مشكلة الشيخ سعد الحريري أنه انحاز لفريق ضدّ فريق، وعلق آماله الكبيرة على جهات داخلية، وإقليمية ودولية دون غيرها، فإذا به يصطدم بحائط مسدود، بعد أن أقفلت في وجهه أبواب الجهة الإقليمية التي علّق الآمال، وراهن عليها، كما تراجعت أسهمه لدى أكثر من جهة دوليّة.
إنها مشكلة سعد الحريري قبل غيره. لقد أضاع البوصلة في أكثر من مكان وزمان… فإذا بالزعامة التي ورثها، ظلّت تبحث عن قائد لم تجده، بعد أن تاه في دهاليز السياسة اللبنانية، والاصطفافات المحلية والإقليمية الضيقة.
في كلّ مرّة يواجه الشيخ سعد مأزقاً داخلياً ما، كان يتصوّر انّ الخروج منه يكمن في تحريك المشاعر المذهبية والطائفية، واستعداء الآخرين، وتحميل الغير المسؤولية، متجاهلاً أنه وتياره جزء لا يتجزأ من منظومة سياسية مسؤولة مباشرة عن انهيار البلد، وكلّ ما حلّ به من كوارث وأزمات.
لم يعد ينفع الشيخ وتياره التجييش الطائفي، وتحريك الحساسيات، والمشاعر، حيث المواطن المسكين اليوم، وبالذات من أنصار المستقبل، يفكر برغيف عيشه ودوائه، ومسكنه، وخدماته، ومستقبله الذي قضى عليه تجار السياسة والطوائف، وسماسرة البلد، ولصوص المال.
لم يكن سعد الحريري في أكثر من ظرف ومكان، حراً في اتخاذ قراره الوطني، قبل أن يتلقى الضوء الأخضر من الخارج في ما يجب أن يفعله أو لا يفعله. فإنْ تجاوز الخط الأحمر، رفعت في وجهه البطاقة الحمراء. وها هي البطاقة يرفعها في وجهه اليوم الحكم، بمعزل عن صوابية القرار او عدمها. قرار حاسم أخرجه من الملعب السياسي، لطيّ سجله حتى إشعار آخر لا يعلمه الا من اتخذ القرار.
لم يشهد لبنان بعد كارثة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، كمّاً كبيراً من العطف، والدعم، والتأييد والزخم الشعبي كالذي توفر “للزعيم الوريث”. وكانت فرصة كبيرة له لإثبات جدارته، والعمل على استيعاب تداعيات كارثة الاغتيال، ورصّ الصفوف، وتوحيد البلاد، ليكون بحقّ زعيماً وطنياً على مستوى البلد كله، يتجاوز الحساسيات الطائفية والمذهبية والمناطقية، والفردية. لكن سريعاً ما بدأ بالانتقام دون وجه حق، متخذاً مواقف صدامية، مبتدئاً بدولة شقيقة، وبضباط وطنيين اعتقلوا ظلماً، والتهوّر في توجيه تهمة الاغتيال الى جهة مستهدفة أساساً.
لقد فرّط الشيخ سعد بفرصة ذهبية لن تتكرّر، لو أنه استثمرها بحكمة، وحنكة، ودراية، ودهاء، لما كان اليوم في هذا الوضع الحرج الذي لا يُحسد عليه، حيث خسر أصدقاءه وحلفاءه وخسر أيضاً مَن استعداهم دون وجه حق، من خلال حسابات خاطئة.
بعد سبعة عشر عاماً من تقلّده الزعامة الموروثة، نقول للشيخ سعد الحريري:
قد تورّث الزعامات يا دولة الرئيس، لكن القيادات لا تورّث! قد يحتاج الزعيم الى عباءة والده لتتكرّس له الزعامة، أما القيادة فلا تحتاج الى عباءة، ولا تورّث، وإنما بحاجة ماسّة الى قادة ورجال يصنعونها…