الدكتور عدنان منصور | وزير الخارجية والمغتربين اللبناني الأسبق
أن يبدأ العدو “الإسرائيلي” بالتنقيب عن النفط والغاز في المنطقة الاقتصادية الحصرية العائدة للبنان، ويقوم بربط نزاع معه مدعياً أن له حقوقاً فيها، فهذا لم يكن مستغرباً ولا مستبعداً. إذ إنّ هذا الأمر، ما كان ليحصل، لولا انّ “إسرائيل” تعرف مسبقاً كيفية تعاطي الحكام، والمسؤولين السياسيين في لبنان مع قضاياهم ومشاكلهم الحساسة، وأسلوبهم الضعيف، ومماطلتهم المتعمّدة في إدارة المسائل الوطنية والسيادية الحيوية لبلادهم. ما جعل العدو لا يأخذ بجديتهم، وصدقيتهم، وحرصهم على مصالح شعبهم، وثروات وطنهم.
تصريحات من هنا وهناك، رسائل واجتماعات، لقاءات وخلوات، خطابات وتنظيرات، مواقف متناقضة وتنديدات، والأعوام تمرّ، و«إسرائيل” غير مكترثة، ولا مبالية بالطبقة السياسية الحاكمة، لأنها تعرف جيداً، انّ مَن أوصل بلده إلى الحضيض، وأذلّ شعبه، وشارك في قهره، وعذابه، وتجويعه، ونهبه، لا يمكن له أن يكون على مستوى المسؤولية الوطنية ليحفظ حقوق وطنه وثرواته ويدافع عنها، وبالذات عن منطقته الاقتصادية الحصرية.
اليوم لبنان يحتجّ، ورئيس حكومته يعتبر انّ ما تقوم به “إسرائيل” من تنقيب في المنطقة المتنازع عليها يشكل اعتداء واستفزازاً، تنجم عنه تداعيات خطيرة !
على ماذا يحتجّ رئيس الحكومة، طالما أنّ السلطة السياسية العليا لم توقع حتى اليوم مشروع المرسوم الذي يحدّد نهائياً حدود المنطقة الحصرية للبنان، لأسباب لم تتوضح لنا حتى الآن، ولم تزوّد الأمم المتحدة بخرائط الترسيم الجديد مدعّمة بالمرسوم ذات الصلة. وإذا كانت الحكومة، ورئيس الجمهورية متمسكين بالخط 29، فلماذا لم يتمّ حتى الآن توقيع مشروع المرسوم الجديد القائم على تعديل المرسوم 6433 الذي أقرّ يوم 1 تشرين الأول عام 2011، والذي اعتمد الخط 23، وأبلغ مضمونه في حينه للأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون.
لماذا يتخبّط المسؤولون في لبنان في المواقف حيال مسألة سيادية حيوية لا تقبل بأيّ شكل من الأشكال، التردّد، والمزايدات، والمماطلة المتعمّدة، والحسابات الخاطئة والمصالح الشخصية وأخذ البعض ضمناً، بمواقف وأهداف جهات خارجية مؤثرة تلبّي رغباتها، تتناغم معها، من خلال تراخيها في حقوقها وثرواتها الوطنية، علّ هذه الجهات الفاعلة تحقق لهذا البعض، ما يرضي تطلعاته وحساباته ومصالحه الشخصية مستقبلاً.
يا أصحاب السلطة! ماذا أنتم فاعلون أمام التحدي والعنجهية “الإسرائيلية”، وماذا تنتظرون من العدو أن يفعل لكم؟! إنكم بجدالكم، وتباين مواقفكم وقراراتكم، تثبتون له كلّ يوم أنكم تفرّطون بحقوقكم من خلال عدم وجود قرار وطني موحّد حيال القرصنة التي يقوم بها في سرقة ونهب ثرواتنا! قولوا لنا قبل أن تندّدوا باعتداء “إسرائيل” على منطقتنا الاقتصادية الحصرية، ما الذي فعلتموه واتخذتموه من قرار جماعيّ لبناني حاسم، والتوافق عليه، لتحديد المنطقة الاقتصادية الحصرية للبنان بموجب مرسوم، والتصدّي لأيّ اعتداء “إسرائيلي” على ثرواتنا؟!
لماذا لم يوقع حتى الآن مشروع المرسوم بصورة قطعية، وهو الذي يستمدّ قوته من قانون البحار، والقانون الدولي، كي يأخذ في ما بعد مساره الطبيعي, لا سيما بعد أن قام الجيش اللبناني بمهمّته على أكمل وجه في هذا الشأن، من خلال اللجنة العسكرية المختصة التي اعتمدت الخط 29؟!
قولوا لنا يا أصحاب السلطة، ما أنتم فاعلون بعد أن دخلت الباخرة انرجيان باور Energean Power حقل كاريش، وتجاوزت الخط 29 لتقترب جداً من الخط 23 !
قولوا لنا صراحة من وراء، وما هي أسباب عرقلة وتجميد توقيع مشروع المرسوم الجديد، الذي عدل المرسوم 6433 تاريخ 1 تشرين الأول عام 2011، والذي وافق عليه دون تردّد، ووقعه رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب يوم 12 نيسان 2021، والذي قضى بتعديل الحدود البحرية الجنوبية، والمنطقة الاقتصادية الحصرية للبنان، ثم أحاله الى رئيس الجمهورية العماد ميشال عون لاستكمال إجراءات استصداره ولا نزال ننتظر الإجراءات؟! قولوا لنا: ما هي الغاية من تجميد مشروع المرسوم؟! هل هناك جهة واحدة وراء التريّث والتحفظ، ام أنّ هناك أكثر من جهة تتناغم مع هذا التريّث والتحفظ، لتبقى في الظلّ إرضاء لجهة دولية خارجية فاعلة ومؤثرة، لا تريد إعطاء لبنان كامل حقوقه؟!
حقوق لبنان تصونها فقط القوة، والإرادة الوطنية الموحدة، ولا يصونها الاحتجاج، والتنديد، والشكوى، والبكاء على الأطلال. للبنان جيش، وشعب ومقاومة يحمون حدوده، ويدافعون عن ثرواته. لكن أين القرار الرسميّ في هذا الشأن؟! خاصة أنّ لبنان أحوج ما يكون اليوم الى مقاومة تصون وتحمي أرضه، وبحره، وسيادته وثرواته. فأين تجار السياسة والمواقف المتذبذبة، الانتهازيون منهم والمتخاذلون، والمشككون والمزايدون؟! ليقل لنا هؤلاء كيف يمكن صون حقوق لبنان وثرواته دون جيش ومقاومة؟! ليعطنا الترياق من هم على شاكلة أصحاب الاسطوانة المشروخة، المصابون بفوبيا المقاومة، الذين لا يتوقفون في أيّ مناسبة عن صبّ حقدهم عليها، وتفريغ ما في جوفهم من عداء شديد يعكس كراهية متجذرة متأصّلة في نفوسهم، وعمالة للخارج.
ألم تقل المقاومة نحن وراء الدولة في ما تقرّره من ترسيم للمنطقة الاقتصادية الحصرية للبنان، بما يحفظ حقوقه وثرواته! فهي وان لن تتجاوز القرار الرسمي اللبناني، إلا أنها ومعها الشعب، بحاجة ماسّة الى القرار الرسمي، والغطاء الشرعي،
لتستند إليه في ما بعد، وعند أيّ تعدّ أو أيّ عدوان “إسرائيلي” على أرض لبنان وبحره ومياهه وثروته وسيادته. فبدلاً من أن يندّد رئيس الحكومة ويُحذر بما تقوم به “إسرائيل” من استفزازات ستترك تداعياتها الخطيرة، وهو تنديد بكلّ تأكيد، لا يقدّم ولا يؤخر بالنسبة لـ “إسرائيل” ولن يمنعها من الاستمرار في سرقة ونهب ثروات بحرنا. كان على صاحب القرار ان يوقع دون إبطاء على مشروع مرسوم الترسيم الجديد، اللهم إلا إذا كان هناك من حسابات أخرى عند أصحاب الشأن، جعلت مشروع المرسوم يبقى في الدرج ينتظر التوقيع منذ سنة وشهرين!
إنّ تلكؤ لبنان في عدم توقيع مشروع المرسوم الذي يحدّد بصورة قانونية قطعية منطقته الاقتصادية الحصرية، يريد منه البعض في الداخل إفساح المجال للوسيط الأميركي، عله يأتي بحلّ يخرجهم من المشكلة التي يواجهونها. لكن غاب عن ذهن هذا البعض انّ الوسيط الأميركي لن يأتي بحلّ إلا لإرضاء حليفه “الإسرائيلي” بالدرجة الأولى، وأن لا يكون الحلّ بكلّ تأكيد على حسابه.
لذلك، لم تنتظر “إسرائيل” مطلقاً عودة الوسيط، وما قد يجلبه من حلول لا تناسبها، بل أرادت أن تذهب بعيداً في تحدّيها لحكام لبنان، وكلّ القيّمين عليه، لتقوم وتتصرّف بمفردها، بكلّ صلف، غير مكترثة، وغير عابئة بمواقف وردود فعل المسؤولين اللبنانيين، وغير ملتزمة بقانون البحار، والقوانين الدولية، المتعلقة بالمنطقة المتنازع عليها، فيما هي تتحداهم وتستفزهم، واضعة الجميع أمام الأمر الواقع.
لكن السؤال الذي لا بدّ من طرحه على الحكومة: هل المماطلة في عدم توقيع مشروع المرسوم غايته إبقاء الوضع على ما هو عليه، وبالتالي وهو الأهمّ، تحييد دور المقاومة وإبقاء جهوزيتها مسمّرة، وهذا ما تريده تل أبيب وواشنطن وهم يتابعون ما يجري في المنطقة الاقتصادية الحصرية للبنان، ويرصدون حركة المقاومة وهي مجرّدة ومنزوعة من أيّ غطاء حكومي رسمي، طالما انّ مشروع المرسوم الخاص بالترسيم لم يوقع بعد، ولا يزال في غرفة الولادة، وما على الجيش والشعب والمقاومة إلا الانتظار !
لا غرابة في الأمر! المسؤولون الذين وضعوا شعباً بأكمله في غرفة الإنعاش، بعد تجويعه، وإذلاله وإفقاره، وقهره ونهبه
ليس صعباً عليهم أن يضعوا كلّ عناصر القوة المتوفرة للبنان التي تحفظ سيادته وثروته وأمنه في موت سريريّ وليس في غرفة إنعاش!
“إسرائيل” بتنقيبها الاستفزازي في المنطقة المتنازع عليها، تكون قد تنصّلت من مهمة الوسيط الأميركي هوكشتاين، ووضعت حداً لها، واغتالتها لتقوم بدفنها في حقل كاريش.
يا دعاة السيادة، الذين لم تفلت المقاومة من حقدكم الأعمى وغيكم، وتطاولكم، وكراهيتكم، وآثرتم الرهان على الأميركي، قولوا لنا ماذا أنتم فاعلون اليوم للدفاع عن سيادتكم وثروات شعبكم، وما الذي ستقدّمونه للبنان غير صدى أصوات طبولكم الجوفاء !
لا تعوّلوا على الوسيط الأميركي، فهو منحاز منحاز، ولن يعطيكم حقوقكم كما تتصوّرون. في أيّ وقت تقتضي مصالحه، سيتخلى عنكم وأنتم على قارعة الطريق. وحدها، وحدة القرار الوطني، وقوة الشعب والجيش والمقاومة تستطيع أن تحفظ السيادة والثروة الوطنية والحقوق، وتردع العدو! هي المقاومة المؤازرة للجيش، لا بديل عنها، وإن علا في وجهها نعيق الغربان ومخبري السفارات…!