الدكتور عدنان منصور | وزير الخارجية والمغتربين اللبناني الأسبق
مع دخول العمليات العسكرية الروسية شهرها الثالث في أوكرانيا، أصبحت موسكو على وشك الوصول الى أهدافها، بعد تحقيقها إنجازات استراتيجيّة حاسمة في الميدان .
على الرغم من الإمدادات العسكرية والمالية الكبيرة التي وفرها الغرب لكييف، وأيضاً الحرب العسكرية الأميركية ـ الأوروبية غير المعلنة رسمياً ضدّ روسيا، وأيضاً العقوبات الاقتصادية، والمالية، والتجارية، والثقافية الواسعة المفروضة عليها، فإنّ ذلك لم ينل من عزيمة موسكو لإتمام العملية الجراحية بالكامل، وإصرارها على اقتلاع الورم من خاصرتها الأوكرانية، الذي شكل مخاوف كبيرة لروسيا وتهديداً خطيراً لأمنها القومي، ولمجالها الحيويّ، ولاستقرارها وسلامة شعبها.
روسيا في حربها على أوكرانيا، ستنتصر رغم تهويل الغرب، ومحاولة استنزافها من خلال الدعم العسكري، والمالي، والإعلامي الذي وفّره لكييف ولحليفه زيلينسكي. فالتراجع والهزيمة بالنسبة لروسيا غير مسموح بهما مطلقاً، مهما كلفها ذلك من ثمن. إذ إنّ هيبة، وقوّة، ومكانة روسيا على الساحة العالمية على المحكّ، ولا يمكن التفريط بها بأيّ حال من الأحوال. هزيمة روسيا، وأياً كان حجمها، يعني تنحيتها عن الساحة الدولية وتقهقرها، وهذا ما يفسح المجال للولايات المتحدة مرة أخرى، كي تندفع بكلّ قوة ودون ضوابط، لتنصّب نفسها من جديد كقطب أحادي يقود العالم، ويتحكم بقراره، خاصة أنه في مواجهة مباشرة شرسة مع قوى صاعدة عملاقة وعلى رأسها الصين.
تبدو الولايات المتحدة حيال ما يجري في أوكرانيا، أشبه بالثور الهائج، الذي يتلقّى السهام بالواسطة وعبر الآخر، دون أن يستطيع النيل من عدوه مباشرة، ويحقق ما يشفي غليله. إذ لم تستطع واشنطن بعد كلّ الذي قدّمته وتقدّمه لأوكرانيا ورئيسها، تغيير المعادلات، والأوضاع على الأرض، وتحقيق إنجازات عسكرية ملموسة وحاسمة في الميدان. ما سيجبر الولايات المتحدة ومعها أوروبا، عاجلاً أم آجلاً على تجرّع هزيمة زيلينسكي رغماً عنها، والقبول بالأمر الواقع والشروط التي ستفرضها موسكو بعد انتهاء عملياتها العسكرية.
لكن ما يجري في أوكرانيا، وما قامت به روسيا في حديقتها الغربية الجنوبية، سيكون للولايات المتحدة حجة وذريعة في
المستقبل، وحافزاً مشجعاً، يتيح لها حرية التدخل العسكري، في أكثر من مكان في العالم، دون الأخذ بالاعتبار معارضة الدول الكبرى، ومنها روسيا والصين بالذات، وغيرها، أو الاكتراث بمواقفها وتنديداتها. لأنّ الدول الكبرى المعترضة، ستلتزم في نهاية الأمر بضوابط محددة، مثل ما حصل لواشنطن وحلفائها الأوروبيين في أوكرانيا، حيث تجنّبوا المواجهة المباشرة مع روسيا، نظراً لتوازن القوى المسلحة، وامتلاك الأطراف المعنية اسلحة الدمار الشامل. إذ سيبقى ردّ الفعل، وهامش التحرك ضدّ واشنطن محدوداً، كالذي حصل ضدّ روسيا في جورجيا عام 2008 والقرم عام 2014 وكما يحصل اليوم في أوكرانيا، حيث اقتصر الأمر على تقديم المساعدات المالية، والمعدات العسكرية واللوجستية لأوكرانيا، من قبل الغرب دون أن يتورّط ويدخل في مواجهة عسكرية مباشرة مع روسيا…
مَن سيلتزم من الدول بعد الحرب في أوكرانيا، بقواعد القانون الدوليّ وأسسه، طالما أنّ القوة هي المعيار الرئيس للقوى العظمى، تستخدمها لتحقيق أهدافها؟! أمس تفككت يوغوسلافيا على يد واشنطن، واليوم تضع موسكو أوكرانيا على الطريق نفسه، ولا نعرف ما الذي تبيّته بكين غداً في منطقة بحر جنوب الصين وتايوان، وما الذي تنوي تركيا فعله في شمال العراق وسورية بعد الاعتداءات المتكرّرة عليهما، وتوغلها في أراضيهما!
لعلّ الساحة المشرقية، وبالذات غربي آسيا التي تشهد غلياناً، ستكون الوجهة المقبلة للولايات المتحدة وحلفائها، كي تأخذ ثأرها من موسكو وأصدقائها، وتلتفّ عليها لتعويض انتكاستها في أوكرانيا. فهي لن تتردّد في فتح جبهات ساخنة في أكثر من دولة، تحركها بالواسطة، من خلال أجهزتها وعملائها ومرتزقتها، وخلاياها النائمة المنتشرة في أماكن عديدة في دول المنطقة، لا سيما منها التنظيمات والفصائل الأصولية المتطرفة، والإرهابية، التي سبق لها أن حظيت بدعم عسكري، ولوجستي، واستخباري، ومالي واسع النطاق، ورعاية كاملة من قبل واشنطن، حيث نشأت فصائل داعش وأخواتها، وترعرعت على يد الأميركيين، وهذا باعتراف الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما ووزيرة الخارجية هيلاري كلينتون .
بؤر توتر كثيرة في العالم ستحرك فيها واشنطن الخلايا الراكدة. ومَن يظنّ انّ الولايات المتحدة انكفأت عن المنطقة المشرقية، وأنها تستعدّ لمغادرتها، والانتقال الى أماكن أخرى ساخنة في العالم، فهذا لا يعكس حقيقة الواقع لأنّ مصالح واشنطن الاقتصادية، والجيوسياسية، والاستراتيجية، يحتم عليها البقاء والحفاظ على نفوذها وتمركزها، وتعميقه في غربي آسيا، ودول المنطقة المشرقية، وبالذات مع المحور الخليجي ـ «الإسرائيلي»، وأيضاً إبعاد تأثير موسكو، وتقليص حضورها في غربي آسيا.
بعد الذي جرى في أوكرانيا، وفشل الغرب في إبعاد الهزيمة عن حليفه زيلينسكي ونظامه، سيدفع بالولايات المتحدة كي تكون أكثر حضوراً، وفعالية، وشراسة أكان ذلك في العراق، أو سورية، من خلال تمركزها واحتلالها العسكري لمناطق عديدة في البلدين بذرائع وحجج واهية، مع ما يرافق ذلك، من رضى واشنطن و»إسرائيل» على التمدد العسكري التركي في العراق وسورية، واحتلاله أماكن فيهما، وما تقوم به من اعتداءات، وانتهاكات يومية لسيادتيهما.
واشنطن لها في العراق ـ وللأسف ـ قافلة من مسؤولين وقادة، وسياسيين وأحزاب، ونشطاء، وعملاء، ورجال دين، لتعوّل وتعتمد عليهم كثيراً. هؤلاء يتلقون الدعم منها، حيث يسيرون وفق سياساتها، وبرامجها، ومصالحها، وأهدافها المرسومة. بهذه القافلة ستبذل واشنطن كلّ ما في وسعها لفكّ الارتباط بين بغداد وطهران، وتقويض العلاقة بين البلدين، وإبعادهما عن بعضهما البعض، من خلال العمل على إيجاد مناخ شعبيّ معادٍ لإيران، وإثارة الحساسيات والكراهية، والترويج لها من قبل عملائها في الداخل العراقي.
أما في سورية، فإنّ واشنطن لن تفسح المجال لأيّ حلّ سياسي في القريب، يُعيد الأرض الى كنف السيادة السورية، إلا بعد الأخذ بمطالبها، فهي تستخدم قوات سورية الديمقراطية «قسد»، وتوفر الغطاء لها، لتكون لها حصان طروادة في الداخل السوري، ما يتيح لواشنطن في ما بعد، الاستمرار في مواصلة فرض الحصار والعقوبات على دمشق واستنزافها، وإبعادها عن أيّ حلّ، لا يلبّي أهداف أميركا وسياساتها، وبالتالي الاستمرار في الاحتفاظ بالمناطق المحتلة من قبلها والقواعد العسكرية التي زرعتها على أرضها.
أما لبنان فلن يبتعد عن دائرة الاهتمام الأميركي، ولن يكون أوفر حظاً، إذ ستستمرّ الولايات المتحدة من جهة، في فرض المزيد من الضغوط على أطراف لبنانية تراها واشنطن معادية لسياساتها.
ومن جهة أخرى ستقوم بتعزيز علاقاتها مع الجهات والفعاليات السياسية التي تستجيب لتوجهات وإملاءات عوكر، وتنسق معها في كلّ صغيرة وكبيرة، لمواجهة مَن ـ بنظرها وزعمها ـ يهيمن على الدولة والقرار اللبناني! فمن أجل فرض المزيد من الضغوط على لبنان، لن تسمح له واشنطن ومعها «إسرائيل» في التنقيب عن ثرواته البحرية في منطقته الاقتصادية الحصرية إلا بالشروط «الإسرائيلية» الأميركية، وبعد توقيع اتفاق مع العدو يضمن مصالحه. وإلا سيبقى الوضع على حاله، دون أن يُسمح لأيّة شركة عالمية بالتنقيب عن الثروات البحرية في ايّ حقل لبناني قبل القبول بالشروط «الإسرائيلية» ـ الأميركية، كما لن تسمح الولايات المتحدة للبنان من خلال الدولة العميقة التي ترضخ لها، من التوجه شرقاً أياً كانت مغريات الدول وحوافزها المشجعة للبنان، لإبقاء وضعه المزري على ما هو عليه، ما يساعدها على ممارسة الضغوط والابتزاز أكثر فأكثر حياله.
أما في فلسطين، سيتعزز الدعم الأميركي لـ «إسرائيل» دون تحفظ، مع توفير الغطاء لها في مجلس الأمن، لجهة سياساتها العدوانية المتواصلة في مصادرة الأراضي، وبناء المستوطنات، وتهجير السكان وتهويد القدس والمناطق المحتلة، وإعاقة قيام الدولة الفلسطينية .
على رأس أولويات واشنطن و»إسرائيل» يأتي الملف النووي الإيراني. فإذا كان الجانب الفنيّ والتقنيّ للملف النووي قد أنجز في فيينا، فإنّ الجانب السياسيّ المتعلق بالحرس الثوري، وإصرار واشنطن على إبقائه على لائحة الإرهاب، او إبقاء فصيل منه (فيلق القدس)، يُعتبر ذا أهمية كبرى لإيران لا يمكن المساومة عليه مطلقاً، ولن تقبل بأيّ حال من الأحوال، وتحت أيّ ظرف كان، إدراج أيّ جناح عسكري او سياسي رسمي، وإبقائه على لائحة الإرهاب. فهذا الجناح جزء من مؤسسات الدولة الايرانية، وقبول طهران بإبقائه على لائحة الإرهاب، يعني انّ طهران تعطي ذريعة لواشنطن وحلفائها في المستقبل، لتوجيه الاتهامات الى إيران الدولة والنظام، وتحميلها
المسؤولية في رعايتها للإرهاب، لكون الجناح المتهم، من مؤسسات الدولة الايرانية التي تديره وتقوده.
تبقى المنطقة المشرقية ساحة مفتوحة أمام تحركات واشنطن لمنع المحور المعادي لها، والقريب من موسكو من التقدّم والتوسّع، لذلك لن تتأخر ومعها «اسرائيل» عن تفعيل الخلايا النائمة والتنظيمات الإرهابية التي حظيت برعايتها، كي تضرب وتزعزع الأمن القومي والاستقرار في أكثر من دولة في المنطقة، أكان ذلك في داخل إيران (بلوشستان وسيستان، والأحواز) أو على الحدود الايرانية العراقية، والايرانية الأفغانية، والإيرانية العراقية أو في شرق وشمال سورية، أو في داخل العراق وشماله حيث تنشط أجهزة الموساد وخلاياه الإرهابية على مساحة البلاد كلها.
أما لبنان فلن يفلت من ممارسة ضغوط واشنطن القاسية عليه، إذ لن تساعده على الخروج من المستنقع الذي هو فيه، قبل ان تنتزع منه مواقف واضحة تنسجم مع سياساتها ومصالح «إسرائيل» في المنطقة.
تطورات كثيرة وخطيرة تنتظرها المنطقة، وهي في مواجهة هجمة أميركية مرتقبة بعد الذي جرى في أوكرانيا. وهذا ما يتطلب الحذر والتأهب لدول المنطقة، بغية مواجهة ما يحضر لطهران وبغداد ودمشق، وبيروت. فهذه المنطقة لن تتخلى عنها الولايات المتحدة بأيّ شكل من الأشكال، لأنّ منطقة غربي آسيا، ترى فيها واشنطن مجالاً حيوياً، ومركزاً فائق الأهمية لمصالحها الاقتصادية والاستراتيجية، لا تقلّ أهميتها عن منطقة جنوب شرق آسيا (جنوب بحر الصين)، أو أميركا اللاتينية، أو قارة أوروبا وأفريقيا.
فصل جديد من فصول سياسات الولايات المتحدة سيُفتح في المنطقة بعد انتهاء الحرب في أوكرانيا. فصل قد يحمل إلينا رياحاً ساخنة تهبّ على أكثر من دولة وأكثر من مكان، ما يفرض عليها الصمود والمواجهة. وإنا لمنتظرون…!