كتب د . روني الفا | كلُّنا ريان يا أبي

الدكتور روني الفا | كاتب وباحث لبناني

في نابلس بفلسطين المحتلَّة باستطاعتنا إلقاء نظرة نوستالجيَّة على البئر الذّي رمى فيه أخوة النبي يوسف شقيقهم الأصغر ولو أنَّ مراجع عديدة تؤكّد أنَّ البئر رمزيَة وقد لا تدلّ يقينًا أنَّ البئر هي نفسها التي احتضنت يوسف صَغير إخوَتِه. قبر النبّي المكرَّم يبعد مئات الأمتار عن كنيسة عمرها خمسَة قرون على أقلّ تعديل كان يبتهل فيها المسيحيون لإلهٍ مخلّص علّه يقفلُ الآبار. كنيسَة تحذّر من الآبار الأخلاقيَّة التي اعتادَت البشريَّة حفرَها لا لجرّ المياه فحسب بل لدفن الأبرياء وطمس الحقائِق. الحقيقة تحرّركُم تقول الكنيسَة ويوسف هوَ أداة التّحرير من حيث أنَّ الظّلم في الرعيَّة يولّد الحريَّة لا مَحال.

شربَ السيِّد المسيح من البئر هذه منذ أكثَر من ألفَي سَنة. رمزيَّة مخيفة وعظيمة في دلالاتِها. خذوا اشرَبوا هذا هو دَمي المحيي بدأت على الأرجح اللاهوتي من دمِ يوسف المظلوم. كم يوسفًا تمّ دفنُه في بئرٍ عميقة القرار؟ كم يوسفًا سيخرجون منها معلنين عودة فلسطين إلى حضنِ حضارَةٍ مسيحيَّة وإسلاميَّة توطّدُ قيمَ المحبّة في العالَم؟ بئرٌ أصرَّ يَومها النبيّ يعقوب على شرائِها ربّما ليقول هذا هوَ أصغَري الحبيب الّذي لَم يُسرَّ بِه إخوتُهُ. مقدّمة أيضًا لكلام إلهيّ ما زلنا نردّدُهُ ” هذا هو إبني الحبيب الّذي به سُرِرت.

بالقرب من هذه البئر العميقة وعَظَ المسيح السامريَّة فاكتشَفَ العالَم أَّنَ طريق تحوّل الإنسان إلى صورة الله ومثالِه ليسَت وعِرَة ولا عسيرة المسالك وأنَّها تُعَبَّد بسرعَة قياسيَّة ما أن نقبَل بتواضع دخول نور الله في قلوبِنا. كانت السامريَّة تبغي الماء من البئر ترتشفُ منها جرعة تقيها العطش فحصلت على كلمة الله. أمّا بيت يعقوب الذي يقع على مقربة من البئر فتحوّل إلى مسجد. أليسَ مادّة للتأمل الروحي تآخي المسجد والكنيسَة في مكانٍ زمني وروحي في آنٍ معًا؟ ردٌّ صارخ على كل من يؤمنُ ضدَّ الآخر.. ضدَّ ذاتِه.

” قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ” على ما وردَ في القرآن الكريم. أي ببساطة لا تقتلوا يوسف! يومها حذَّرَ إبن خالة يوسف من مغبّة قتلِه على هذا النّحو.

غابَ خبرُ الطّفل ريان في الجبّ في مكان ما من المغرِب منذ ايّام. رماه إخوتُهُ أيضًا كما تمَّ رمي أطفال بيافرا واليَمَن وفلسطين وأفريقيا والعراق وسوريا. آلاف يوسف يموتون لأنَّ أخوَتَهم مُتخَمون لا يتّعظونَ مما قالَه الإمام الزّمخشَري: لو سُئِلَ أهلُ القبور عَن سبب موتِهِم لقالوا التُّخمَة.

غيابات الجبّ منتشرِة في كلّ العالَم وبئر بيت المقدِس منسوخ في كل بقعة من بقاع الأرض. الأغراب والأعراب يشربون من الضّحايا كلَّ يوم فإذَا مَــاتَ مِنْهُــمْ سَـيِّدٌ قَـامَ سَـيِّدٌ.

يوسف دخل البئر وخرج منها نبيّاً على ما قرأت أما ريان فدخَلَها وخرجَ ملاكاً. شعوبٌ بأكملِها يودعها الحكّام في البئر ضحايا الظّلم والحرمان. ضحايا الحريّة والإنعتاق والثورة على الطغيان.

في لبنان آبار منتشرة في كلّ الأقضية وآلاف ريان ينتظرون من ينتشُلُهُم منها. صوت الله عظيم لكنّه لَم يتناهَ بعد إلى أذنيه المنصِتَتَين. لعلّه عمق البئر أو لعلّه خفوتُ الصّوت المُنادي.

خرَجَ ريان ميتًا ولم يخرج شَعبُنا بعد لنعرف على أيِّ حالِ استقرّ وما هي فداحةُ موتِه. وسط أهازيج المطبّلين والمزمِّرين يعيد التاريخ نفسه دفنًا لريان ومزيداً من الآبار المحفورة. رحم الله ريان ورحِمَنا معه نحن الذين تخرجُ أصواتُنا مخنوقَة من آبار التبعيَّة لطبقة سياسيَّة غسَلَت مثل بيلاطوس أيديها من ” دم هذا الصدّيق “.

Exit mobile version