الدكتور روني الفا | كاتب وباحث لبناني
قرأتُ عن سَماح إدريس ولهُ ولَم أعرِفْهُ للأسفِ وَجهًا لِوَجه. تَكَفّلَتْ حَيفا ويافا ودير ياسين وصَفَد واللَدّ ونابلس وجنين في جَمعِنا منذ العام 1948 قبلَ ولادَتَينا وما تَجمعُهُ فِلسطين لا يُفَرِّقُهُ إنسان.
غَريبٌ المَفعولُ السِحرِيُّ للكوفِيّةِ الفِلسطينيَّة. قادِرَةٌ وبسرعَةٍ قياسيَّةٍ على إلغاءِ كلِّ فَوارِقِ اللغةِ والولادَةِ والدينِ والطائفةِ ومسقطِ الرأسِ كمثلِ مَسحَةِ الرّسول. فجأةً ومن دونِ سابِقِ تصوّرٍ وتَصميمٍ لا تَعودُ ترى فَرقًا يُذكَرُ بينَ المَسجِدِ الأقصى وكنيسَةِ المَهد. شكلُ الخارِطَةِ الفلسطينيَّةِ وعطرُ الشُّهداء في المثاوي يجعلُكَ تتخطّى طقوسَ الرّكوعِ والسُّجود. لا بأسَ عندما تقعُ في غرامِ فلسطينَ أن تؤمنَ خارجَ القوالبِ الإيمانيَّةِ المُتَعارفِ عليها أنَّ المسيحَ أَسرَى وأعرَجَ أو أنَّ محمَّداً صَلبَهُ اليَهود.
ما الفرقُ يا سَماح طالَما أنَّ على يمينِ ويسارِ كلٍّ منهما تواجَدَ اللُصوصُ وتُجّارُ الهَياكَل؟ المهمُّ في المحصّلة أن تعلّقَ على صليبِكَ المقدَّسِّ هِلالًا رَمضانيًّا بَهيًّا أو على هِلالِكَ صليبًا وتمشي جُلجلَتَكَ المبارَكَةَ نحوَ الحريَّة.
سَماح إدريس لَم يَكُن من هذه الزاويَةِ مُسلِمًا بالثقافَةِ أكثَرَ منّي ولا كنتُ أكثَرَ مسيحيَّةً منه والحقُّ أننا كنّا سويًّا مؤمنَينِ بديانَةِ الحقِّ الفلسطينيِّ المقدَّسِ ومتَّفِقَّينِ برغمِ عدم التقاءِ وَجهَينا أنَّ تحريرَ العَرَب وللأسف أصعَبُ من تَحريرِ فلسطين.
الكبيرُ سَماح في ذكرى ضَريحِكَ الطّازَج. ماذا أخبرُكَ عن حملةِ مقاطَعَةِ إسرائيل بعد أن أصبَحَ الكيانُ مقاطَعَةً في أرض العَرَب؟ الأنظمَةُ هناك تعملُ ليلَ نهار من أجل تحويلِ الممثلةِ الإسرائيليَّةِ ” غال غادوت ” التي جسَّدَتْ دورَ المرأةِ الخارقة إلى قدوةٍ للنساء العربيات وحمدًا لله لم تفلَح في ذلك.
أما رُهابُ المثليَّةِ آخِرُ سلعَةٍ صهيونيَّةٍ فَباتَ يعرِّضُنا للملاحقةِ الجَزائيَّةِ في أوروبا وأميركا تحتَ طائِلِ تَجريدِنا مِن أعضائِنا..الناطِّقَة تمامًا مثلما باتَتْ معاداةُ الساميَّة سِكّيًنا يُسَنُّ على حِبالِنا الصَّوتيَّة بمجَرَّدِ أن نُجاهِرَ بِتَفتيشِنا عن الرصاصةِ الصّهيونيَّةِ التي استقرَّتْ في رأسِ شيرين أبو عاقلة.
الخطَّةُ الصهيونيَّةُ تقتضي أن يتحوَّلَ العالم العربيُّ برمَّتِه إلى ماركةٍ مسجَّلَةٍ إسرائيليَّة. في مواجهةِ أبراهام يسرُّني أن أُثلِجَ صَدرَكَ بإبلاغِكَ أنَّ فادي عيد وعبدالله منياتو وبشير سَعدان وناصيف الياس وشربل بو ضاهر وناديا فواز هزموا الصهاينة في الشطرنج وفنون القتال. ما الفائدة أصلًا من مواجهةِ الصهاينةِ في لعبةٍ ذهنيةٍ أو بَدَنيّةٍ إذا كنّا قد انتصرنا عليهم في حربٍ حقيقية؟
لسنا في أفضل حالٍ منذ أَنْ أسَّستَ يا سماح ثقافةَ مقاطعةِ الكيانِ المؤقَّت.استبدَلَ المطبِّعونَ حليبَ ضروعِ الناقَةِ بِمسحوقٍ سَريعِ الذَّوَبانِ يَنزُّ مِن مصّاصاتٍ من السِّيليكون صُنِعَتْ في تل أبيب. إستَبدَلوا القرنفلَ والهالَ والزَّعفَرانَ في القهوةِ العربيَّةِ بنبيذٍ إسرائيليٍ مَسروقٍ من كروم جِنينَ والبيرَةَ ورامَ الله. يأكلون خبزَ البيتا الإسرائيلي بدَلًا مِن تناولِ خبزِ التَنّورِ والفَطيرَةِ والطّابونَة. اعْتَمَروا طاقيَّةَ الكيبِيه بدَلَ الكوفيَّةِ المرقَّطَةِ بِدماء محمّد الدرَّة. صارَ بينَهُم وبينَ بِن غافير يا سَماح خبزٌ وملحٌ وصِرنا نحنُ الذينَ ما تعوّدنا أكلَ خبزِنا إلا بِعَرَقِ عُروبَتِنا بَونٌ شاسِعٌ حتّى لَباتوا يردّون إذْ نُبادِرُهُم بتحيَّةِ ” السّلامُ عليكُم ” نسمَعُهُم يردّونَ السلامَ بعبريّةٍ مستعرِبَةٍ قائلينَ ” شالوم ييغا ماليخيم!
كلُّ ما نحن فيه يدعونا إلى استدعائِكَ من ضريحِكَ لتقودَ الحملَةَ التي أطلَقتَها. نحن بِحاجةٍ إلى ألفِ نَموذَجٍ منك في دولِ التطبيعِ حتى لا يولدَ الأطفالُ عند العرب فينادونَهُم آرييل وبنيامين ونوعامَ ويائيلَ بدلَ مناداتِهِم بأوساما وليلى وسليم وسيمَة وديمَة وساريَة وَنايْ و..سَماح!
لذلك، ليسَ دقيقًا وصفُكَ يا سَماح كَمُتخصِّصٍ في أدبِ الأطفال. أنتَ متخصصٌ في ملكوتِ السماواتِ تيمّنًا بقولِ يسوع إن لَم تَعودوا كالأطفال فَلنْ تدخلوا ملكوتَ السّماوات!
جريدة النهار الإثنَين ٢٨-١١-٢٠٢٢