مقالات مختارة

كتب د . روني الفا | حديث ودّي مع موتور

الدكتور روني الفا | كاتب وباحث لبناني

اكتسَبتُ عادات جديدةً خلال السنتَين الماضيتَين تستحقُّ فضولَ عُلماءِ النفس. إحداها مخاطبةُ مولّدِ الكهرباء في المحلَّةِ حيث أَسكُن. بالطبع أخاطبُه كَصَديقٍ حَميمٍ ضمنَ حوارٍ داخلي ومفرداتٍ مُستَحدَثَة. يتحوّلُ موتورُ الحَيّ إلى كائنٍ حيٍّ يُرزَق أُسقِطُ عليه انفعالات وانتظارات إستراتيجيَّةٍ شتّى.

قُبيلَ مُنتصفِ الليل بلحظاتٍ قليلَةٍ يَخطرُ صديقي الموتور على بالِي. أَهُمُّ بالنهوض مِن كَنبتِي الوثيرَة في الصالون وأقولُ في نفسِي: ” لن أدعكَ تغدرُ بي هذه الليلَة “. أُهرولُ مُتثاقِلَ الخُطى لأُتَمِّمَ واجباتي الكهربائيَّة قبل الخلود الى النوم. ” سأصلُ آمنًا إلى سريري عزيزي الموتور. هل تُشارطُني بأني قادرٌ على قضاءِ حاجتي البيولوجيَّة وتعبئةِ مَطرةِ الماء وتناولِ الدواء والإطمئنانِ على غفوَةِ الأولاد وإطفاءِ جهازِ التلفزيون وإضاءةِ النوّاصةِ وارتداءِ بيجامَتي وتشريجِ الخلوي في بنكِ الطاقَةِ قبل ان يغصَّ النورُ رويدًا رويدًا مُعلنًا موعِدَ العتمةِ الشاملة؟ أنا أُحققُ ذاتي الكهربائية معك يا موتورَ الحَيّ “.

في هذه اللحظات يبدأُ حوارُك مع ذاتِك الدّفينَة. ” هيّا يا رجل، أثبِتْ للموتور أنك قادرٌ على القيام بالمهمة “. ما أن تَنتهي من المهمة الأولى تقومُ بتهنئةِ نفسِك كمنتَصِرٍ في ماراتون دُوَلي. وأنتَ في المكانِ الحَميم حيث تَتخلَّصُ من مَخزونِك الغذائي تَتسلّى بِتعدادِ الثواني حتى لا تخطئَ في الحساب. أيُّ تهوُّرٍ في التّقدير يكلِّفُكَ غاليًا خصوصًا في مكانٍ لا يخوِّلُكَ القيامَ بواجِبِك التَّنظيفي كاملًا من دون إنَارة. تخرجُ بسرعةٍ صوبَ خَزانة الثياب. ” لن أقترفَ أيَّ هفوةٍ تضيّعُ عليّ ثوانٍ ثمينة “. ” أدخلي يا بيجامَتي حَرمَ سيّدِك بخفّةٍ وتَؤدة “. ” يا لي من لَبّيسِ بيجاما ماهر ” . الساعةُ الحادية عشرة وتسعٌ وخمسونَ دقيقة وكذا عِشر. ” سأكون بإذن الله تعالى وتبارَكَ في سريري هنيهةً تمامًا قبل حلولِ الدامِس”. غلبتُكَ يا موتور الحيّ هذه الليلة “. أنا في وضعية مستقيمة. الظلامُ يغطّي بشَرشَفِه الأرجاء لكني أرقدُ بسلامٍ على رجاء القيامة.

لا حاجةَ للهزء منّي ولا التنمُّر على سلوكياتي المُستغربة. كلُّنا صرنا نتكلَّمُ مع موتورات الأحياء الحزينة. مِنّا مَن يتكلّمُ مع المَصاعِد أيضاً. ” هيّا هيّا صديقي المصعَد، إحمِلني نصفَ طابِقٍ بَعد ونصلُ أَنتَ وأنا بِأمان “. ما أن تفتحَ بابَ المصعد حتى تنقطعَ الكهرباء. ترتسمُ على فمِك بسمةُ انتصار. تشكرُ المقصورةَ بحرارةٍ أو تقبّلُها وتدخلُ عبر بابِ بيتِك مُكلَّلًا بالنصر. تتبادلُ أيضًا أطرافَ الحديث مع المايكروويڤ في المطبخ. جهازٌ غليظُ الدم لأنه يسجّلُ تعاقُبَ الثواني برنّاتٍ خضراءَ منتظِمَةٍ أمامَ ناظِرَيك. مع المايكروويڤ تَعيشُ زمنَين. زمن تسخينِ يخنَةِ البامياء وآخر لتبريدِ يخنَةِ أعصابِك.

تقرّرُ ان تُركّزَ مرةً أخرى على صديقِكَ موتور الحي. ” هيّا فَتى الكتائِبي أعطني برمةَ أسطوانةٍ واحدة بعد في حشرَجاتِك “. تغمضُ عينيك وتبرمُ داخليًا معه. تخالُ نفسَك لبرهةٍ أنك مازوتُه وأنَّ قدرتَكَ على التركيز تحرّكُ تِلِكينيزيًّا الأشياءَ الجامِدَة عن بُعد. نجاحُ مسعاك يحوّلُكَ الى مواطنٍ سَعيد يتناولُ بامياء ساخنة. فشلُهُ لا قدَّرَ الله يحوّلُكَ إلى جائعٍ مَكبوت.

يحدثُ أحيانًا أيضاً أن تُجري عَدًّا تنازليًّا ذهنيًّا بعد انقطاع كهرباء الدولة. برهةٌ قبل أن يزوّدُك الموتور بالطاقة. تتنافسُ مع أفراد أهل البيت مَن منكم يتزامنُ صفرُه التنازلي بدقَّةٍ مع لحظة الإنارة. مرَّة جديدة تتوطّدُ علاقةُ الثقةِ بينَك وبين موتور الحي. تشعرُ به عن بُعد يبادلُك عواطفَك الجيّاشَة.

” أشياءَنا الجامدة، أروحٌ تسكنُكِ موصولَةً بأرواحِنا وبشِدَّةِ الحب؟ “. كَتَبَها لامارتين مستشرِفًا من جبال لبنان التي تنسَّكَ بينَ ربوعِها حوارًا حضاريًّا يدور بيننا وبين موتورات أحيائِنا. هُوَ ربطَ الجمادَ بِغياب الأحبة ونحن نَفخْنا روحًا بالجَماد مع غياب الكهرباء. طوبى لنا نتبادلُ أطرافَ الحديث مع براداتِنا وغسّالاتِنا ونشّافاتِنا ومكاوي جحوش الكَوي. قِطعانُ جُحوشٍ نتسامَرُ مع محرِّكات ونعيشُ خارِجَ الأزمِنَة وداخِلَ أمكنَتِنا الذهنيَّة. مِن شعبٍ حَضاريٍ إلى شعبٍ جَحشٍ مركوب ومَصلوب ومَنهوب. أُطروحَة دكتوراه علم نفس باثولوجي لكلّ مَن يرغَب في الإستِزادَة.

 

النهار

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى