الدكتور حسن احمد حسن | باحث سوري متخصص بالجيوبوليتيك والدراسات الاستراتيجية
من أيّ طِيْنَةٍ مقدسة جبلكم لله يا رجال الحق على الأرض؟ وما سر هذه الثقة التي تسكنكم، والدماء المشحونة ببعد روحاني عقائدي يجري في عروقكم، فَيُفَوْلِذ الإرادة لديكم، ويُعَنْكِب قدرات المعتدين وإنْ امتلكوا الرؤوس النووية؟
كم يتوق المحبُّ لو أنه يستطيع أن يسري مع أنفاسكم وأنتم في ميادين التدريب والبذل والعطاء، وكم سيكون الجنى وفيراً لو أفلح في تلمُّسِ مراحل النضارة التي تعرش على محيَّاكم، وترتسم في الأفق حيثما تولون وجوهكم الطافحة بالبشر وإمارات النصر؟
كيف جمعتم بين صلابة الميدان ورقة المشاعر تجاه كلّ ما له علاقة بإنسانية الإنسان؟ وأنّى لكم أن تتقنوا فنون القتال بأعقد تكتيكاته في مواجهة أشرس مصاصي الدماء وهواة القتل والدمار والفناء، فترغمون قادتهم قبل جنودهم، وسياسيّيهم قبل مستوطنيهم على ابتلاع مرارة التسليم بقواعد اشتباك فرضتموها رغم أنوف طواغيت الكون وكلّ من يدور في فلكهم الآسن؟
متى استجمعتم الساعات والدقائق والثواني، وأقمتم لها سداً كيلا تهرب تحت أية ذريعة أو عنوان، ونفختم فيها من أرواحكم المؤمنة الواثقة فغدت كافية لإعداد العدة، وتجهيز ما يلزم لكلّ شدة بالتزامن مع متابعة شؤون حياتكم اليومية حتى لا يكاد أحد يدري كيف تكدّون وتتعبون، ولا متى تعدّون أنفسكم وتستعدّون… تصقلون مهاراتكم وتبدعون في حمل الأمانة المقدّسة والتكليف الشرعي والأخلاقي والوطني والإنساني بكفاءة وجدارة واقتدار…
ولعلّ التساؤل الأكثر مشروعية الذي يفرض نفسه على كلّ من تابع ويتابع ما ينجزه مجاهدو المقاومة يتلخص في الطموح لمعرفة كيف واءمتم بين روحية الإنسان المؤمن الواثق المطمئن رغم أعاصير الشر ووحوش الليل المكشرة عن أنيابها، وبين امتلاك القدرة لمواجهة شرور تلك الوحوش والذئاب المفترسة في غابة محكومة بقانون البقاء للأقوى، وهم منذ عقود يراكمون أوراق الطاقة التدميرية، ويمتلكون ترسانات دمار شامل كفيلة بإفناء كلّ من يقول لهم: لا، وما أن سطع نجمكم المشعشع حتى تغيّرت اللوحة بكلّ تفاصيلها، فإذ بأولئك القتلة المجرمين يقفون في مواجهتكم عاجزين، ويستجدون زعيم العصابة الأكبر أن يبذل كلّ جهد ممكن لعله يجد ما يُبْقي لهم على بعض ماء وجه، وقد رآهم العالم كيف يقفون على رجل ونصف ووجوههم إلى الجدار بإشارة واحدة من سبّابة الأمين المؤتمن على الدماء… فكيف لنبضكم الإنساني الدقيق ومضبوط الإيقاع أن يتحوّل إلى رعب يسكن قلوب وأرواح وأوصال جلاوزة الإجرام والقتل، ويلجم القَتَلةَ من أبناء وأحفاد القتلة ومصاصي الدماء في دير ياسين وكفر قاسم وبئر السبع وحيفا واللد وصبرا وشاتيلا وغيرها كثير وكثير. وهم اليوم يتخوّفون من السقوط والذوبان قبل احتفالهم بالذكرى الثمانين لإقامة كيانهم المؤقت، وكأنّ مناورتكم المباركة رسالة تأكيد على أنّ مخاوفهم صحيحة، وعلى من تبقى من أصحاب الرؤوس الحامية ألا يستعجل النهاية الحتمية الآتية لا ريب فيها.
يدرك كلّ من تابع ما نشره الإعلام الحربي عن مناورة المقاومة الإسلامية التي نفذها حزب الله في أحد معسكراته في جنوب لبنان، بحضور مئات الصحافيين والإعلاميين اللبنانيين والعربِ والأجانب أنّ ما يمكن أن يعيشه المتابع من حالة عاطفية متفاعلة مع المناورة وما تضمّنته أكبر بكثير من أن يقولب بكلمات توصيفية، وأعمق من أن تحيط به دراسات تحليلية لهذا الكاتب أو ذاك، فالمشهد كان مهيباً بحق، ودرجة التأثر التي يتركها في أعماق كلّ من يتابعه تفرض في مراحلها الأولى على الكاتب السباحة في تيار الحالة المعنوية والنفسية العاطفية وهي جزء أساسي وفاعل من عوامل النصر في أية مواجهة. فالدقة والتنظيم والانتظام وتناسق الحركات يعكس المستوى اللائق والرفيع في التدريب وامتلاك ناصية الأداء بأعلى مستوياته، وتنسيق الجهود وتوزيع الأدوار وتكثيف الزمن المطلوب للإنجاز إلى أقلّ معدل يستحق أن يدخل المعايير المتعارف عليها في المذاهب العسكرية، بل أستطيع الجزم بأنه يحقق أرقاماً قياسية جديدة، ويخرق المعدلات المتعارف عليه في الأزمنة المخصصة لأداء مثل تلك المهام التي تمّت محاكاتها في المناورة، وإذا كانت المناورات العسكرية تُبنى على عدو مفترض، فالعدو الافتراضي في مناورة حزب الله محدّد وبدقة، وهو محصور بالكيان الإسرائيلي، والإصابات الدقيقة التي تمّ تحقيقها وإسقاط أعلام العدو المفترض في كلّ مفصل من مفاصل المناورة له دلالاته الخاصة، وإذ كان الإعلام المعادي قد علّق على المناورة بأنها تتضمن كلّ شيء ما عدا الصواريخ الدقيقة فعلى جنرالات تل أبيب ومسؤوليها أن يتيقنوا أنه لم يعرض إلا النزر اليسير، وكلّ ما له علاقة بتحقيق المفاجأة المطلوبة بقي مجهولاً وسيبقى إلى أن يتمّ استخدامه في الأعمال القتالية الفعلية، وعندها لن يكون المحللون السياسيون والخبراء العسكريون الإسرائيليون الذين يظهرون على الشاشات بحاجة للسؤال عن الصواريخ الدقيقة، «ولات ساعة مندم» عند ذلك.
كلّ معطيات التحليل العسكري الموضوعي تشير إلى أنّ عبور المقاومين إلى الجليل بشكل فعلي وعملي قد يتطلب جهداً أقلّ مما عُرض في المناورة التي تستحق أن يُقال عنها: المناورة المنارة، فقد كانت منارة حقيقة منذ لحظة الإعلان عنها، مروراً بنقطة انطلاق القافلة الإعلامية التي نسقتها العلاقات الإعلامية في حزب الله لحضور مناورة الانتصار، وصولاً إلى الاستثمار في الزمان والمكان، والانضباط الطوعي الرفيع المتبلور بالتقيّد الحرفي بتنفيذ التعليمات، وما تضمّنته المناورة من رسائل واضحة لا لبس فيها، فوحدة الساحات واحدة من قواعد الاشتباك التي فرضتها المقاومة بتضحياتها، وكلّ القواعد المفروضة بالدماء يحظر المساس بها من أية قوة كانت، ومن حق اللبنانيين جميعاً أن يكونوا واثقين مطمئنين. فالمقاومة قادرة ومتيقظة وجاهزة للدفاع عن أمن لبنان واللبنانيين تجاه أيّ خطر أو تهديد محتمل أو متوقع، وفلسطين كانت وتبقى الوجهة والهدف، ولن يسمح بالاستفراد بأيّ فصيل من فصائل المقاومة الفلسطينية، وإذا كان هناك مَن يراقب ويتابع ما تشهده المنطقة من متغيّرات وإعادة اصطفاف. فالفضل في كلّ ذلك لما قدّمه محور المقاومة وأنجزه، وما تبقى أقلّ مما تمّ إنجازه، ومن المهم الإشارة هنا إلى الجانب المعنوي والروحي الذي صبغ أداء المجاهدين المنفذين، فقبضاتهم وهي ترتفع وتتحرك تتجاوز دلالات اللياقة البدنية العالية، وكلّ ما له علاقة بلغة الجسد لأنّ فيها شيئاً من الروح الكربلائية، وأصواتهم كأنها رعد القدر المقبل والمحتوم، وهذا وعد الله وحاشا لله أن يخلف الميعاد، ووقع أقدامهم يزلزل ما تبقى من فواعل طاقة تدميرية لدى العدو لأنها بحكم منتهية الصلاحية وغير القابلة للصرف، ومع كلّ رصاصة أطلقت أو قذيفة مزقت الهدف الذي اتجهت إليه ترتفع تراتيل: «هيهات منا الذلة».