الدكتور حسن أحمد حسن | باحث سوري متخصص بالجيوبوليتيك والدراسات الاستراتيجية
السويداء مدينة العقل والعقلاء، ومحافظة الحكمة والحكماء، ولن يضل الطريق من يستضيء بنور العقل ويسترشد بهدي الحكمة قط، ولذا حرصت على أن يكون كل ما في هذا المقال مستنداً إلى ما يخاطب العقل ويقنعه بدلاً من سوق الاتهامات، والترف بتقديم التأويلات وتناقل الأخبار عبر تقنية “قص ـ لصق” التي تصدّرها لنا منصات “السوشيال ميديا” مع كل شهيق وزفير، ومن حق كل مواطن سوري أن يعرف ماذا يجري في محافظة السويداء التي سبق للسيد الرئيس بشار الأسد أن وصفها بالصخرة الأصلب في جدار القلعة السورية؟ وما سر هذا التوقيت المريب بدلالاته ومضامينه؟ وهل ما يجري يقتصر على احتجاجات مشروعة بسبب رفع بعض الدعم عن المحروقات، وضغوط الحياة المعيشية على الجميع، أم ثمة أسباب وعوامل خارجية تفعل فعلها؟ ويبقى السؤال الأهم: وماذا بعد؟ وإلى متى يستمر هذا الوضع الشاذ الذي يزيد الأعباء والتوتر، ويساهم بتعميم صورة متناقضة مع قيم أهلنا الكرام في محافظة السويداء؟ وهل يمكن الوصول بالاحتقان المتزايد إلى نهاية تحافظ على هيبة الدولة، ولا تسيء لكرامة الوطن ولا المواطن؟ وكيف؟.
تساؤلات مشروعة وأتمنى على كل من يطلع على المضمون ألا يتردد في إثارة أية فكرة تثير ريبته، أو لا يراها مقنعة للعقل والتفكير العلمي البعيد عن الأمنيات من جهة، والأحكام المسبقة من جهة أخرى، ولذا من المهم توضيح الأسس والمنطلقات المعتمدة في هذا المقال التحليلي الذي أنجز بالاستناد إليها حصرا، وليس إلى أية اعتبارات أخرى وفق المحددات التالية:
أولاً: الوطنية والخيانة مصطلحان فضفاضان يتم استخدامها في كثير من الأحيان بشكل ذاتي وانتقائية مزاجية هلامية المرجعية، ولتفادي أي خطأ محتمل في الاستخدام يجب الامتناع كلياً عن التخوين لأي كان، فلا أحد يحق له توزيع شهادات بالوطنية على هذا الشخص أو الطرف أو المجموعة، ولا أحد مخول بإصدار أحكام بالخيانة والعمالة لأطراف أخرى، فجميعنا مواطنون سوريون، ولسنا قضاة ولا محققين ولا في جلسات محاكمة سرية كانت أم علنية.
ثانياً: من حق الجميع التعبير عن الحاجة والمعاناة المفروضة على جميع السوريين لأسباب متعددة ومتنوعة، منها ما له علاقة بالمفرزات الحتمية لحرب مزمنة ومركبة مستمرة منذ أكثر من 12 سنة، ومنها ما يتعلق بتقصير أو قصور أو فساد أو خلل في هذه المؤسسة الحكومية أو تلك، والاحتجاج المعقلن على المطالب الحياتية حق مشروع على أن يبقى تحت سقف القانون وهيبة الدولة، وبغير ذلك يتحول تلقائياً من مطالب مشروعة إلى اصطفاف مع أعداء الوطن الذين يعلنونها صراحة وجهراً أنهم مصممون على الاستمرار بالحصار الاقتصادي والعقوبات لدفع الشعب السوري للتمرد على قيادة الدولة والضغط عليها لتذعن للشروط التي يسعى الأعداء لفرضها منذ آذار 2011م.
ثالثاً: كما أنه من حق كل سوري التعبير عن مطالبه المشروعة المتعلقة بالأمور الحياتية والمعيشية كذلك من حق كل سوري غيور على وطنه أن يتمسك بالرموز الوطنية الخاصة بسيادة دولته، وعدم السماح بالمساس بها تحت أية ضغوط أو تهديدات: ويمكن تكثيف هذا الرموز بأربعة ثوابت أساسية، وهي:
1ـ وحدة وسلامة الجغرافيا السورية، وسيادة الدولة على كامل أراضيها.
2ـ العلم الوطني: علم الجمهورية العربية السورية.
3ـ جيش الوطن: الجيش العربي السوري.
4ـ مقام الرئاسة بشخص قائد الوطن: السيد الرئيس بشار الأسد.
فالمساس أو الاقتراب بسوء من أي من هذه الثوابت الأربعة يفقد صاحبه بصمة المطالب المشروعة، ويربطه تلقائياً بأجندة خارجية راهن الأعداء عليها على امتداد سنوات وفشلوا وسيفشلون، لأن الجينات السورية لا تستطيع قبول الانتقاص من مقومات السيادة والكرامة.
رابعاً: توقف العمليات العسكرية الكبرى لا يعني انتهاء الحرب المفروضة على الدولة السورية قط، فهي مستمرة بوتائر أشد على الصعد الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية ـ الدبلوماسية، والفكرية ـ الإعلامية، وقد نكون في المراحل الأولى من أكثر فصول الحرب خطورة وهي الحرب على الوعي، ولعل ما حدث ويحدث في السويداء هو انعكاس مباشر للتصعيد غير المسبوق في هذا الجانب من جوانب الحرب.
وقفة مع ما يحدث ـ المضامين والدلالات:
بعيداً عن الخوض في مدى صوابية أو خطأ توقيت صدور قرار رفع بعض الدعم عن المشتقات النفطية، وما رافقه من زيادة في أسعار المواد الغذائية والتموينية، وارتفاع تكاليف المعيشية فوق طاقة المواطن، من الطبيعي أن يتساءل المتابع العادي: هل ما حصل خاص بمحافظة السويداء، أم يشمل جميع المحافظات بما فيها السويداء؟ وطالما أنه يشمل الجميع فهل أهل السويداء أقل قدرة من غيرهم على التعامل مع الظروف الضاغطة، أم أنهم أصحاب كرامة ذاتية أكثر من أقرانهم في بقية المحافظات؟ وقبل هذا وذاك: كم هي نسبة من خرجوا للتظاهر وقطع الطرقات من عدد سكان السويداء؟.
لتوضيح الصورة بشكل أفضل يمكن التوقف عند بعض النقاط والأفكار المهمة، ومنها:
ـ تداعيات الحرب المفروضة على الدولة السورية والظروف الضاغطة وصعوبات الحياة وتأمين المتطلبات الضرورية تشمل الجميع دوما استثناء، وقد يكون ما يتم تأمينه لمحافظة السويداء أفضل مما هو عليه في بقية المحافظات.
ـ نسبة من خرجوا للتظاهر وعمدوا إلى فرض قطع الطرقات وإغلاق المحلات وتعطيل دورة الحياة لا يشكلون في أعلى التوقعات نسبة تتراوح بين 2 ـ5%، ومن حق 95% من سكان السويداء أن يسألوا أولئك: من أعطاكم الحق بتعطيل دورة حياتنا اليومية؟ ومن فوَّضكم للحديث باسم كل أهل السويداء؟ وماذا لو أن بعض من منعهم أولئك من الذهاب إلى أماكن عملهم ردوا عليهم بالمنطق نفسه واشتبكوا معهم بالأيدي أو غيرها لمنعهم من مصادرة إرادتهم والتدخل في شؤون حياتهم الخاصة؟ وماذا لو تطور الأمر ولم يتوقف عند الاشتباك بالأيدي مثلاً؟
تساؤلات كثيرة مشروعة تطرح نفسها هنا، ومنها: هل قطع الطرقات ومنع المواد الغذائية والتموينية والخدمية من الدخول إلى المحافظة يخدم مصالح أبناء السويداء أم العكس؟ وإلى متى تستطيع مجموعات صغيرة منتشرة أن تصادر بالتخويف والبلطجة إرادة البقية؟.
ـ إذا كان السبب المباشر لما حدث محصور بالجانب المعيشي والمطالب الحياتية المشروعة، فكيف يمكن تفسير التركيز على المطالبة بتنفيذ القرار /2254/، وما علاقة القرار المذكور برفع الدعم وزيادة الأسعار؟ وهل استشار من كانوا وراء صدور القرار أهل السويداء بمضمون القرار قبل صدوره؟.
ـ من المسلم به أن سورية بلد غني بتعدد مكوناته، وهذا التعدد والتنوع الديني والمذهبي والمجتمعي عامل إثراء، ولا يجوز أن يتحول إلى عامل فرقة وانقسام وضعف بدلاً من كونه عامل غنى وتنوع وقوة، فالهويات الذاتية الضيقة تنصهر في إطار الهوية الوطنية الجامعة للدولة، ومن المسلم به أيضاً أنه منذ ظهور الدولة القومية وبقية الانتماءات المذهبية والطائفية والعرقية تنصهر في بوتقة الدولة، وإن كانت تحافظ على كينونتها ضمن الدولة المسؤولة عن حماية الجميع، وعندما يطفو على السطح أي انتماء فرعي:/ طائفي ـ قبائلي ـ عشائري ـ إثني…الخ/ فهذا يعني بالضرورة أن تعويمه ومحاولة تعميمه تكون على حساب الانتماء الأعم والأشمل والأرحب أي الانتماء الوطني للدولة، وهكذا فعل لا يخدم أي مكون قط، بل ينعكس سلباً على أبنائه لأنه ينتقل بواجب الحماية والرعاية من الدولة إلى المكونات التي كانت سائدة قبل ظهور الدولة القومية، وبكلام آخر مباشر وواضح: علم الدولة هو الذي يظلل الجميع، وحمل أي علم آخر هو افتئات على الدولة بجميع مكوناتها، ولهذا السبب كان قائد الثورة السورية الكبرى المجاهد سلطان باشا الأطرش وبقية المجاهدين يرفعون علم الثورة العربية وليس أي علم بخلفية طائفية أو مذهبية، فهل كان هؤلاء الرموز الخالدون على خطأ والعالم كله على خطأ ودعاة “المطالب الحياتية والمعيشية” اليوم على صواب في السويداء أو غيرها؟.
ـ من النقاط التي تستحق التوقف عندها في الأحداث الطارئة في السويداء تكرار الشعارات التي رفعها من حمل راية تدمير سورية منذ عام 2011 تحت مسمى “الربيع العربي” والشعب يريد كذا وكذا، والعودة بعد قرابة 13 سنة لتبني الشعارات ذاتها يثير العديد من إشارات الاستفهام الكبرى، وقد كان لأهلنا النشامى والوطنيين الغيارى في السويداء وغيرها دور بارز في إسقاط تلك الشعارات المشبوهة التي رفعها المسلحون المرتبطون بأجندات خارجية، وأولى درجات الوفاء للشهداء من السويداء وغيرها أن يتم الابتعاد عن تبني تلك الشعارات التي سقطت وسقط حملتها ومروجوها وداعموهم على اختلاف مسمياتهم، ولا أجافي الحقيقة إن قلت: إن صمود السيد الرئيس بشار الأسد، وما تميز به على امتداد سنوات الحرب من رباطة جأشه وقوة شكيمة وتمسك بالثوابت الوطنية كان بمثابة العمود الفقري لصمود الدولة السورية، ولولا تلك الصلابة التي تميز بها السيد الرئيس، وإيمانه الراسخ بقدرة سورية على المواجهة وكسر الإعصار وبلوغ الانتصار ـ وإن ارتفعت التكلفة ـ لكانت سورية والمنطقة في ضفة أخرى، وليتصور أي متابع منصف تطور الأحداث وتداعياتها إلى أين كانت ستتجه، لو أن السيد الرئيس وافق على ترك دفة السفينة في مثل هذا الكم من الأعاصير والأنواء، ولا أحسب أن أحداً يستطيع أن يتنبأ بفداحة الوضع لو فكر السيد الرئيس مرة واحدة أن يذعن لما تم التخطيط له والاشتغال عليه منذ سنوات، إن لم يكن منذ عقود، وباختصار شديد يمكن القول : لو حدث ذلك لا سمح الله لما كان اليوم يوجد على الخارطة دولة اسمها الجمهورية العربية السورية، بل مجموعة دوليات وإمارات ومزارع تخلو من الكرامة، و يقودها من يتمسح أكثر بالحذاء الصهيو ـ أمريكي، وبالتالي ما الرسالة التي يريد من تحركوا في السويداء إيصالها بتناول مقام الرئاسة؟. سؤال يستحق التوقف عنده باهتمام وجدية ومسؤولية.
ـ من المهم التذكير بعودة غرفة “الموك” للعمل نزولاً عن الطلب الإسرائيلي، وعندما نقول غرفة “الموك” يعني عودة نشاط الموساد الصهيوني وبقية أجهزة الاستخبارات المعادية التي كانت وراء الحرب على السوريين جميعاً منذ 2011م وحتى اللحظة الراهنة، وهؤلاء لا يخفون سعيهم لتفتيت الدولة السورية وتشظيتها وتقسيمها وفق أسس ضيقة تتناقض ومقومات الدولة الوطنية، ولا أظن أن مثل هذه الخلفيات المشبوهة يتناسب وما عُرِفَ عن أهل السويداء من رجولة وكرامة ومروءة ونخوة وشهامة ترفض التعامل مع العدو بكل أشكاله ومسمياته، وإذا كان قادة الثورة وحاملو لواءها ضد المستعمر الفرنسي رفضوا جميعاً إغراءات التفرد بدويلات طائفية ومذهبية، فأحفاد أولئك الأبطال المجاهدين ـ ومن منطلق الوفاء لتلك القيم النبيلة ـ هم أحرص على رفض كل النزعات التقسيمية المشبوهة التي تهدد من يتبناها قبل غيره.
ـ بعض مقاطع الفيديو التي تم تداولها تظهر أحد المحرضين على التصعيد، وحوله بضعة أشخاص من بينهم عدة فتية من القاصرين الذين تتراوح أعمارهم بين تسع سنوات واثني عشر عاماً، وهو يتبجح بأن السلاح متوفر في السويداء وبوفرة أكثر من المطلوب، وأضاف أن النساء في السويداء قادرات على استخدام السلاح وإطلاق النار من النوافذ، والسؤال لكل محب للسويداء من داخل المحافظة أو خارجها: لمصلحة من يتم تعميم مثل هذا الكلام؟ وهل يخدم أبناء السويداء أم العكس؟.
ـ الأمر الآخر الذي لا يقل خطورة ظهور مسلحين ليسوا من أبناء محافظة السويداء، بل كانوا قادة ومسلحين في تنظيمات إرهابية مسلحة عملت على امتداد سنوات في درعا أو غيرها، فهل لظهور أولئك ومشاركتهم في قطع الطرقات على أهل السويداء دور يمكن البناء عليه لتخفيف وطأة أعباء الأمور المعيشية الضاغطة؟…
ـ قد يظن بعض السذج أن الإعلان عن دعم للتحرك غير النظيف يعطيه مشروعية، لكن على أولئك ألا يتناسوا أن الإعلان عن التأييد من قبل أي طرف مشبوه يجعل الطرفين في خانة واحدة، ولا أظنه من دواعي الفخر والسرور الإعلان عن تأييد ما يسمى “هيئة التنسيق” التي شرعنت حمل السلاح ضد الدولة السورية، وكانت من المتسببين بسفك كل قطرة دم أريقت بشكل مباشر أو غير مباشر، واستقبل رئيسها السفير الأمريكي في مكتبه، و.. و.. كثير غير ذلك، فهل الإعلان عن وقوف تلك الهيئة مع تحركات من يقطعون الطرقات يخدم سمعة وكرامة أهل السويداء الشماء؟ والأمر ذاته ينطبق على “قسد” وكذلك إعلان جنبلاط وحزبه دعم أولئك بالتزامن مع تسويق الرضا الأمريكي والإسرائيلي ومن يدور في ذاك الفلك الآسن، ورحم الله القائل: وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت أتاح لسان حسود
وأنا أقول: وإذا أرد الله نشر فضيحة كُتِمَتْ أتاح لسان حقود
ـ التعامل المتزن والمضبوط والهادف من أجهزة السلطة التنفيذية في المحافظة سحب البساط من تحت أرجل المراهنين على الفوضى، وأظهر القلة التي تحاول مصادرة إرادة أهل السويداء على حقيقتها المرتبطة بأجندة خارجية تسيء أول ما تسيء إلى السويداء وأهلها وقيمها وتاريخها وإرثها النضال والوطني المشرف.
خلاصة:
ماذا بعد؟ وإلى متى يمكن أن تستمر قلة قليلة بتعطيل دورة الحياة في السويداء الغالية؟..
ليس لدي جواب على هذا السؤال المهم، لكن قناعتي الذاتية أن أهلنا الكرام من أبناء المحافظة هم القادرون ومن دون تكلفة تذكر على بتر هذه النزعة المتناقضة جملة وتفصيلاُ مع الهوية الوطنية للسويداء، وأبناء كل بلدة وقرية ومدينة يستطيعون وبيسر كبح جماح من لا يريد الخير للسويداء ولا لغيرها من المحافظات السورية.
حمى الله السويداء، وحمى سوريتنا الغالية لتبقى فعلا عرين العزة والكرامة، والقلب النابض بكل مقومات السيادة والوطنية المبرأة من كل لشوائب والأدران.
غداً موعدنا إن شاء الله مع مقال وجداني يخاطب الروح والأحاسيس والمشاعر، وسأحرص على ألا يكون طويلاً كهذا المقال..
كل المحبة لجميع الوطنيين الشرفاء أينما كانوا.. سورية الله حاميها