كتب د . حسن احمد حسن | السودان: أحد صواعق التفجيرات الممكنة
الدكتور حسن احمد حسن | باحث ومحلل سياسي ومختص بالجيوبوليتيك والدراسات الإستراتيجية.
الاستمتاع بلعب دور الضحية يمنح الجلاد متعة إضافية لا يستطيع بلوغها، ولا التلذذ بطعمها ومذاقها إلا بازدياد تأوهات الضحية واشتداد أنينها تحت وقع سياط الجلاد وسكاكينه المطلوب شحذها بتمريرها المتكرر على عظام الضحايا، وكلما كانت حركة الجسد المثخن بالسكاكين عنيفة ومضطربة على وقع فوَّار النزف المتدفق من العروق كلما أيقن الجزَّار أنه استثنائي، ولديه من المهارات والكفاءات ما يخوله أن يبقى متسنماً سطح نادي القَتَلَة والتحكم بإرادة الآخرين وهم يضحكون، ويبدو أن هذا المضمار المستحدث للتنافس ما يزال يتسع للكثير من اللاعبين الجدد لضمان تحول بعضهم إلى جثث تضاف إلى الرقم المتسلسل من الضحايا الذين قضوا ويقضون كوقود لطحن ما تبقى من قيم إنسانية في أفران الصهر الحتمي التي أقامتها مراكز السيطرة والتحكم بمصائر الشعوب ومستقبلها في شتى أنحاء المعمورة، وما يجري في السودان خير شاهد على صحة هذا التصور.
على الضفة الأخرى ترتسم معالم وعوامل تساعد الكتَّاب والمحللين في تقديم قراءاتهم المتعددة والمتباينة بأساليب وطرق التواصل لضمان تصحيح الإدراك وفهم حقيقة ما جرى ويجري بهدف امتلاك بعض الضمانات والتحصين ما أمكن من أخطار اختراق العقول، ومحاولات كيّ الوعي الفردي المجتمعي بالاعتماد على أنساق تصطف طواعية، وتمتد إلى ما لا يدركه البصر من المتنافسين في مضمار إثبات صحة نظرية المؤامرة، وتعليق كل سلبيات الماضي والحاضر والمستقبل على مشجب تآمر الخارج المعادي والساعي لنهب الثروات ومصادرة مقدرات الدول والشعوب، وكأن المطلوب من ذاك الخارج بقواه وأطرافه أن يشمر عن سواعده، ويطلق العنان لتتسابق مكوناته في الدفاع عن القيم الإنسانية السمحة، وتمكين الشعوب من استثمار ثرواتها ومقدراتها وعوامل قوتها بشكل ذاتي وبعيد عن أي استهداف ممنهج، في الوقت الذي يدرك فيه كل من لديه ذرة من عقل أن وجود تلك القوى الخارجية واستمراريتها بفاعلية مرهون بمدى قدرتها على التخفّي والتقرُّب من الضحايا بما لا يثير الشبهات لضمان تمرير ما تم اعتماده من أهداف، وبالتالي ما يسمونه مؤامرة أو تآمر هو أحد أشكال الحرب، أو أحد أدواتها وتكتيكاتها وأسلحتها التي لا غنى عنها لأي قوة توسعية عبر التاريخ، والنأي بالنفس عن تحمل المسؤولية والتقصير والقصور لا يغير من حقيقة ما يتبلور على أرض الواقع والميادين المفتوحة من حقائق تفرزها المواجهة المطلوبة والمتناسبة طرداً مع الطاقة الاستيعابية للمسالخ المقامة في جميع جبهات الاشتباك المزمن والمتزايد باستمرار.
لا يمكن فهم ما جرى ويجري في السودان، ولا التنبؤ بما قد تؤول إليه الأمور والسيناريوهات المحتملة والممكنة التي قد تحكم المشهد في المستقبل القريب والمتوسط من دون معرفة: الأطراف المشاركة حقيقة في أتون المعركة، والأطراف المستفيدة والمتضررة، وكذلك توزع الدعم ومصادره واتجاهاته، وهذا يتطلب معرفة ما لدى السودان من ثروات وطاقات، وتأثير الموقع الجغرافي الذي يشغله على بقية الأطراف المستفيدة والمتضررة، وربط كل ذلك بتطور الأحداث وتداعياتها المحتملة إقليمياً وعالمياً، ولا أظن بلوغ ذلك ممكناً بمقالة صحفية، أو إطلالة تلفزيونية، بل الأمر يتطلب دراسات تخصصية ومعمقة ترتكز إلى أسس التفكير الموضوعي ومناهج البحث العلمي المستند إلى الواقع القائم، والمنطلق منه إلى المستقبل وفق الاحتمالات الممكنة لا وفق الرغبات والأمنيات التي يمكن تضمينها المقالات والدراسات التحليلية نظرياً لكنها تبقى أقرب إلى حقيقة “الحمل الكاذب”.
لا يمكن فصل ما يجري في السودان عما تشهده المنطقة من اشتباك حاد ومزمن ومعقد بمدخلاته ومخرجاته، وما يزيد الرؤية ضبابية ارتباط الداخلي بالإقليمي بالعالمي، وبلوغ صراع القوى المتنفذة والمرشحة لمزيد من النفوذ أو الانكماش مرحلة غير مسبوقة من الاستعصاء المفتوح على شتى السيناريوهات، وقد يكون من المفيد هنا الإشارة إلى بعض العناوين والأفكار التي تساعد على فكفكة مدخلات الصورة البانورامية المتداخلة، ومنها:
• الموقع الاستراتيجي للسودان، وما يتمتع من ثروات ومصادر ثروة يجعله في قلب الاستهداف الممنهج لأي طرف يطمح لزيادة ما لديه من عوامل قوة وتأثير في مفاصل صنع القرار إقليمياً ودولياً.
• طرفا الصراع الدائر اليوم “البرهان وحميدتي” هما حليفا الأمس اللذين توزعا الأدوار والصلاحيات للوصول بالسودان إلى ما هو عليه، وكلاهما يرتبط بعلاقات مع واشنطن.
• التعثر الأمريكي المتزايد في الاحتفاظ بأحادية قطبية بدأت دعائمها تتداعى وبتسارعات تفوق وتيرتها قدرة واشنطن على التعامل المضمون مع التداعيات.
• اضطراب الاقتصاد العالمي، وازدياد شدة الخضات التي تهدد استمرارية هيمنة الدولار التي تشكل أحد أهم عوامل التفرد الأمريكي بالقرار الدولي.
• قدرة روسيا الاتحادية على إعلان الندّية مع الغرب الأطلسي، والتقدم جغرافياً لمنع استمرار الزحف المعادي لتطويق روسيا بعد تأمين إمكانية التمترس الميداني في كامل فناء حدائقها الخلفية.
• الاختراق الاستراتيجي الذي أحدثته الصين في منطقة محسوبة ضمن النفوذ الجيوبولتيكي الأمريكي، والنجاح في رعاية الاتفاق السعودي ـ الإيراني المرشح لمزيد من التداعيات المشجعة لبقية الأطراف للخروج من تحت العباءة الأمريكية.
• نجاح محور المقاومة في المواجهة والدفاع عن الوجود، وإمكانية البناء على صمود سورية، وانكسار أعاصير الربيع المزعوم على الجغرافية السورية.
• هشاشة الداخل الإسرائيلي وتصدعاته النوعية التي تعصف بما يمتلك من عوامل طاقة تدميرية جراء إمكانية الانقسام والتشظي الداخلي المتزايد بالتزامن مع تآكل قدرة الردع حتى في الداخل الفلسطيني المحتل.
• المجمع الصناعي العسكري يشكل أحد مكونات حكومة الظل العالمية التي تربط وجودها واستمرارية قدرتها على التأثير والتدخل بالحفاظ الدائم على بؤر توتر إقليمي وعالمي، وإشعال المزيد من الحرائق والحروب لضمان استمرار دوران عجلة التصنيع الحربي، وضمان وصول الأسلحة إلى كل الأطراف المتصارعة من دون إحداث تفوق كاسر للتوازن لأي طرف.
• إشعال النار في السودان يشكل المعادل الموضوعي المتاح والممكن لمنع تصدير الاختراقات الروسية والصينية على إنها متغير استراتيجي في موازين القوى، فضلا عما تحمله ذاتياً من عوامل قوة مؤهلة لتشكيل أقطاب مكافئة.
• صحيح أن ألسنة النار تلتهب في السودان، وهذا لا يستبعد أن تكون مصر مستهدفة أيضاً، لقطع الطريق على أي احتمالات غير محسوبة في ظل ازدياد الحوافز الدافعة للتفكير في إمكانية الخروج من تحت العباءة الأمريكية، ويمكن لهذا الأمر أن ينسحب أيضاً على بقية الدول العربية القائمة على الشاطئ الشرقي للبحر الأحمر.
• إشعال السودان يعني قطع الطريق على تمدد النفوذ الروسي والصيني باتجاه القارة السمراء، وإبقاء لوحة الاشتباك العالمي المزمن والمعقد مؤهلة لاستيعاب كل السيناريوهات، ومفتوحة على شتى الاحتمالات.
• تراخي القبضة الأمريكية بعض الشيء لا يعني أفول الأحادية القطبية بين عشية وضحاها، فالسودان صاعق تم تفجيره، وما يزال في الحقيبة الأمريكية الكثير من الصواعق الجاهزة للتفجير في جغرافيات أخرى، وكل منها قد يعيد خلط الأوراق، وتجديد الاشتباك لمنع التشبيك المتناقض مع استمرارية الهيمنة والنفوذ.