كتب د . حسن احمد حسن | التصعيد الميداني في دير الزور: حقيقته ـ دلالاته ـ تداعياته المحتملة
الدكتور حسن احمد حسن | متخصص في الإستراتيجيا والجيوبوليتيك
قراءة المضامين والرسائل والتداعيات لأي حدث له علاقة بالجانب العسكري أمرٌ يتطلب قبل كل شيء الإحساس العالي بالمسؤولية، فالتحليل السياسي، وتقدير الموقف المتشكل بخلفية عسكرية ليس ترفاً فكرياً، ولا حقل تجارب لتسويق الذات وتصنيع محللين حسب الطلب، ومقتل الدراسات التحليلية يكمن في اعتماد الأماني والرغبات على أنها نتائج متبلورة أو في طريقها نحو ذلك، ولا يمكن تقديم قراءة موضوعية تقنع العقل العلمي ما لم يتم الانطلاق من مفاهيم أساسية، وفي مقدمتها الحامل والمحمول، والثابت الآني والمتحولات، وعوامل القوة والضعف، وتشابك العوامل الذاتية بالموضوعية داخلياً وإقليمياً ودولياً.
استناداً إلى ما سبق وتلبية لرغبة أمانة السر في الرابطة الدولية للخبراء والمحللين السياسيين أقدم هذه القراءة المتواضعة التي تعكس فهمي الذاتي ورؤيتي الشخصية للتصعيد الذي حصل في دير الزور قبل أسبوع، ولعله من المفيد هنا التوقف عند بعض النقاط والأفكار التي قد تساعد في تكوين رؤية أكثر وضوحاً وشمولية، ومنها:
توقيت التصعيد الميداني ودلالاته:
ليست المرة الأولى التي يتم فيها استهداف القواعد الأمريكية غير الشرعية على الجغرافيا السورية، وإذا أنكر الأمريكيون في السابق سقوط قتلى في صفوف جنودهم فهذا لا ينفي إمكانية حدوث ذلك، لكن وللحفاظ على الهيبة والهالة التي يسوقونها كان يتم التكتم على الخسائر البشرية، وهناك أسباب أخرى متعددة لست بصدد بحثها الآن، وهذا يطرح بضعة تساؤلات مشروعة: فلماذا اعترف الأمريكي بسقوط قتيل وإصابة خمسة آخرين؟ وما الغاية من تسويق خبر على لسان بايدن نفسه أنه أعطى الأمر لقواته للرد وفرض الردع؟ وما سر انخفاض حدة صوت اليانكي الأمريكي بعد صدور بيان المجلس الاستشاري الذي أعلن أن اليد الطولى في المنطقة للمقاومة بجميع مكوناتها، وليس للأمريكي وأتباعه، وأن الرد الحتمي قادم، ومن يقولون لا للأمريكي جاهزون لجميع السيناريوهات المحتملة، وهذا ما حدث؟.
الإجابة على أي من هذه التساؤلات المشروعة تتطلب التوقف المسؤول عن دلالات التوقيت، لأن حدوث أية ارتجاجات في بيئة مضطربة مرتبط بالبيئتين الإقليمية والدولية، ومن المهم هنا الإشارة إلى النقاط التالية:
• الانفتاح عربياً وإقليمياً على الدولة السورية بعد الزلزال المدمر، والزيارات النوعية واللقاءات التي قام بها السيد الرئيس بشار الأسد، وجميعها يؤكد حقيقة أهمية سورية ومكانتها في صلب سياسات جميع القوى الطامحة للعب دور فاعل في هذه المنطقة الجيوستراتيجية من العالم.
• استحالة تجاوز الدور السوري أو القفز فوقه في أية تسوية تستهدف تبريد الملفات الساخنة، أو الانخراط في انزياحات جيوبولتيكية أفرزها الاشتباك المزمن بين واشنطن وأتباعها من جهة، وبين بقية الأطراف الدولية والإقليمية الرافضة لاستمرار الأحادية القطبية تحت أي مسمى كان.
• الإعلان من بكين عن الاتفاق السعودي ـ الإيراني برعاية صينية، وهذا يعني إمكانية انتقال الدور الصيني المنافس للأمريكي من الجانب الاقتصادي إلى الجانب السياسي والأمني في منطقة مهمة ومتعارف عليها أنها ضمن مجال النفوذ الأمريكي الصرف.
• ازدياد حالة الانقسام والتشظي الداخلي الإسرائيلي أفقياً وعمودياً، مع ازدياد احتمال هروب نتنياهو من الأزمة الداخلية الضاغطة بركوب الرأس ومحاولة تصديرها إلى الخارج، مما يعني إمكانية انفجار المنطقة في توقيت لا يتناسب وأولويات مطبخ صنع الإستراتيجية الأمريكية المشغول في تداعيات المواجهة المفتوحة عسكرياً مع روسيا على الجغرافيا الأوكرانية، ومع الصين في عدة ملفات متداخلة.
• ازدياد وتيرة الاعتداءات الإسرائيلية على أهداف في الداخل السوري، وتوسع دائرة بنك الاستهداف المباشر ليشمل المطارات المدنية والموانئ البحرية، وحتى الأحياء السكنية المأهولة، بذريعة ضرب المصالح الإيرانية، ومنع وصول سلاح كاسر للتوازن القائم إلى أيدي حزب لله الذي ازداد ظهور أمينه العام سماحة السيد حسن نصر الله في الفترة التي سبقت التصعيد، وفي كل ظهور كان يوصل رسائل بالغة الوضوح، وجميعها تؤكد أن الساحات متصلة، وأن أطراف محور المقاومة تتابع ما تريده لاستكمال متطلبات الإعداد والاستعداد للحرب الكبرى الحتمية التي اقترب موعدها كثيراً.
• توتر أردوغان من ضغط الوقت الذي يفصله عن موعد الانتخابات الرئاسية، وضرورة حصوله على ورقة اللقاء مع السيد الرئيس بشار الأسد ليقينه بأنها جسره الوحيد للفوز في الانتخابات القادمة.
• تراخي القبضة الأمريكية في الإطباق على جميع الملفات الساخنة، وبدء تشكل قناعة لدى الأمريكي بأن الهامش الممنوح لأتباعه للتحرك ضمنه قد يتسع بما لا يرضي واشنطن، وقد تصل الأمور إلى درجة التفكير جدياً بالخروج من تحت العباءة الأمريكية، مع يقين الجميع بإمكانية تخلي الإدارة الأمريكية عن أية جهة عندما ينتهي دورها الوظيفي، والأدوار الوظيفية للجميع تكاد تقترب من نهايتها الحتمية.
في هذه البيئة المتداخلة والمعقدة، وضمن الأجواء المتشابكة والضبابية جاء التصعيد الأمريكي العدواني، وتلقى الرد الذي ألزم أصحاب الرؤوس الحامية في واشنطن على ابتلاع مرارة انكسار الهيبة، والاضطرار لخفض مستوى التهديد والوعيد والغطرسة التي لم تعد تخيف من قرر المواجهة بغض النظر عن الضريبة المطلوب دفعها، لأنها مهما ارتفعت تبقى أقل بكثير من ضريبة الخضوع والإذعان.
التصعيد المستجد وتطوراته:
يدرك كل متابع مهتم بتطور الأحداث وتداعياتها على الجغرافيا السورية أن التصعيد الذي حصل في دير الزور غير مسبوق، وأن الهجوم الذي تعرضت له القواعد الأمريكية هو الأعنف والأقوى منذ تشكيل ما سمي “التحالف الدولي” بقيادة أمريكية ودخوله إلى الأراضي السورية كقوة احتلال، ولتوضيح الصورة، وفهم حقيقة ما جرى من المهم التذكير بتسلسل الأحداث وتطوراتها، وما ترتب عليها من تداعيات تخوف فيها بعض المتابعين من تدحرج كرة النار وخروج الأمور عن السيطرة، وأتوقف هنا عند أهم المحطات المتعلقة بالموضوع، ومنها:
ــ مركز الدراسات “Critical Threats” المقرب من مفاصل صنع القرار في الإدارة الأمريكية قدر أن نشاط داعش يشكل أحد أهم التحديات أمام جهود إيران وسورية لتأمين خط الإمداد من البوكمال إلى حلب، وكشف المركز أن نشاط داعش في سورية والعراق خلا ل الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2023م. تخطى مئة عملية من دون أي رد فعل من التحالف الدولي بقيادة أمريكا، وبتاريخ 7/3/2023م.نشرت مجموعة الأزمات الدولية ” ICG” تقريرَ دعت فيه إلى فتح قنوات اتصال مع هيئة تحرير الشام “جبهة لنصرة” المصنفة على لائحة لإرهاب الدولي بزعامة أبو محمد الجولاني التي زادت من تحركاتها وعملياتها المباشرة ضد مواقع الجيش العربي السوري، وهذا يكوّن فكرة لدى أي متابع مهتم مفادها أن واشنطن تعتمد على تحركات داعش وبقية التنظيمات الإرهابية المسلحة وتديرها كعمليات إشغال لتبرير وجودها الاحتلالي وغير الشرعي.
ـ في مطلع شهر آذار لعام 2023م. أسقط مجلس النواب بأغلبية/321/ صوتاً مقبل/103/ مشروع قرار سحب القوت الأمريكية، وقبل /36/ من بدء التصعيد في دير الزور صوت مجلس الشيوخ الأمريكي بأغلبية/86/ صوتاً ضد إلغاء قانون سابق يتضمن تفويض استخدام القوة العسكرية عام 2001 مقابل موافقة تسعة أعضاء فقط على الإلغاء، وهذا يعني قطع الطريق على أية محاولات لسحب القوات الأمريكية من سورية.
ــ قائد القيادة المركزية الأمريكية الجنرال “مايكل ريك كوريلا” أعلن في 16/3/2023م.أن الطائرات الروسية حلقت فوق قواعد أمريكية في سورية في محاولة للاستفزاز، ولاحقاً أعلن قائد القوات الجوية في القيادة الأمريكية “اليكسوس غرينكفيش” أن الطائرات الروسية نفذت/25/ طلعة فوق قاعدة التنف العسكرية خلال شهر آذار 2023م، وآخر تحليق كان يوم الأربعاء 22/3/2023م.
ــ تنتشر القوات الأمريكية في /28/ نقطة على الجغرافيا السورية، وانتشارها أشبه ما يكون بطوق يحيط بحقول النفط والغاز في المنطقة الشرقية، وهذا يؤكد الصفة الاحتلالية لتلك القوات، والحرص على سرقة الثروات السورية وحرمان الشعب السوري منها في وقت هو أحوج ما يكون إلى مصادر الطاقة، ودعم النزعة الانفصالية لدى قسد وتشجيعها على الاستمرار بالاعتداء على بقية مكونات المجتمع السوري في المناطق التي تنتشر فيها بإشراف أمريكي وحماية مباشرة وعلنية.
ـ تبلور معادلة جديدة تتضمن استهداف القواعد الأمريكية بشكل متزامن بعد الاعتداءات الإسرائيلية، وقد ذهبت بعض الآراء والدراسات إلى اعتبار ذلك إحدى قواعد الاشتباك الجديدة لإبقاء التصعيد مضبوط الإيقاع ومنع تدحرج الأمور وخروجها عن السيطرة.
ــ عدوان إسرائيلي يستهدف مطار حلب الدولي بتاريخ 22/3/2023م.مما أدى لخروجه عن الخدمة بسبب أضرار في مدرج المطار وفي بعض التجهيزات الملاحية، وتم تحويل كل الرحلات القادمة والمغادرة من وإلى المطار باتجاه مطاري دمشق واللاذقية لحين الانتهاء من إصلاح الأضرار.
ـ استهداف القاعدة الأمريكية في منطقة “خراب الجير” بعد مغرب يوم الخميس 23/3/2023م. ما أدى إلى مقتل متعاقد أمريكي وإصابة خمسة آخرين وفق ما أعلنت عنه وزارة الدفاع الأمريكية التي قالت إن أنظمة الدفاع الجوي الأمريكي هناك لم تكن تعمل بشكل كامل، وإنه تم فتح تحقيق لمعرفة سبب عدم نجاح الدفاع الجوي في التصدي للمسيرة الإيرانية وفق ما ورد في بيان البنتاغون.
ــ ليل الخميس 23/3/2023م. تقوم الطائرات الحربية الأمريكية باستهداف مراكز تنمية ريفية ومركز للحبوب في حي هرابش السكني المجاور لمطار دير الزور العسكري، وتسفر الغارات عن ارتقاء سبعة شهداء وعدد من الجرحى، ويتم نشر صور ستة شهداء، وهم مواطنون سوريون من محافظتي حمص ودير الزور.
ـ وزير الدفاع الأمريكي “لويد أوستن” يوضح أن الرئيس الأمريكي جو بايدن فوّض القيادة المركزية الأمريكية بشن ضربات جوية دقيقة شرق سورية ضد المنشآت التابعة لإيران، وتتناقل وسائل الإعلام تصريح لبايدن يتضمن أنه أعطى الأوامر باستهداف منشآت إيرانية، وأن الولايات المتحدة لا تسعى إلى صراع مع إيران التي عليها ألا تخطئ الظن فالإدارة الأمريكية مستعدة للعمل بقوة لحماية شعبها.
ـ صدور بيان عن المركز الاستشاري الإيراني في سورية يتضمن أن الاحتلال الأميركي وانطلاقاً من المنطقة المحتلة في التنف قام بتنفيذ عدوان على نقاط مدنية في منطقة دير الزور، وأن الأهداف التي تمت مهاجمتها هي عبارة عن مخازن تغذية ومراكز خدمات، ونتيجة هذا الاعتداء سقط عدد من الشهداء والجرحى الأبرياء الذين لا ذنب لهم سوى أنهم يقومون على خدمة أهلهم في تلك المنطقة، وتضمن البيان تحذير العدو الأميركي والتأكيد على امتلاك “اليد الطولى و لدينا القدرة على الرد في حال تم استهداف مراكزنا وقواتنا على الأراضي السورية، ولن يكون انتقامنا سهلاً وبعيداً”.
ـ البنتاغون تصدر بياناً يوضح أن الطائرات الأمريكية المهاجمة انطلقت من قاعدة العيديد في قطر، والمتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية يؤكد أن واشنطن لا تسعى للصراع مع إيران، وأن مهمتهم في سورية لضمان القضاء الكامل على داعش.
ـ وزارة الخارجية السورية تصدر بياناً تدين فيه الاعتداء الآثم الذي شنته قوات الولايات المتحدة الأمريكية على بعض المناطق في محافظة دير الزور، والذي أدى إلى سقوط عدد من الضحايا، وإصابة آخرين وإلحاق أضرار مادية، وتضيف: إن الأكاذيب الأمريكية الممجوجة بشأن المواقع المستهدفة ما هي إلا محاولة فاشلة لتبرير هذا العمل العدواني والانتهاك الفاضح لسيادة الجمهورية العربية السورية ووحدة وسلامة أراضيها، واستكمالاً للاعتداءات التي ارتكبها كيان الاحتلال الإسرائيلي وقطعان (داعش) الإرهابية بحق أهالي المنطقة، وستار دخان للتغطية على مواصلة قوات الاحتلال الأمريكي سرقتها النفط السوري، إذ قامت تلك القوات اليوم بتهريب 80 صهريجاً محملاً بالنفط الخام المسروق من الحقول السورية عبر معبر الوليد غير الشرعي إلى خارج سورية، وتؤكد الوزارة في بيانها على تمسك سورية بإنهاء الاحتلال الأمريكي، وبسط سلطة الدولة السورية على كامل أراضيها، ووقف الرعاية الأمريكية ودعمها للميليشيات الإرهابية الانفصالية، وتطالب جميع دول العالم بإدانة هذا العدوان الأمريكي والتضامن مع سورية للحفاظ على وحدة أرضها وشعبها.
ـ منذ فجر الجمعة 24/3/2023م إلى منتصف الليل والرد يتتالى على مواقع القوات الأمريكية حيث تم استهداف العديد من القواعد في حقل العمر وكونيكو والشدادي وغيرها من المواقع الأمريكية على امتداد الضفة الشرقية لنهر الفرات بصليات صاروخية إضافة إلى الطائرات المسيرة، ومن المسلم به أن وصول القذائف إلى كل تلك المواقع والقواعد قد خلف خسائر بشرية ومادية، وإن أنكر الأمريكي وأتباعه ذلك أو تكتموا عليه، وقد شوهدت أعمدة الدخان والنار المشتعلة من الأماكن المستهدفة بالعين المجردة ومن مسافات بعيدة.
ــ المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني يؤكد أن استمرار الوجود العسكري غير الشرعي للولايات المتحدة الأمريكية واحتلال أجزاء من أراضي سورية، والاعتداء على مواقع مختلفة فيها، انتهاك لسيادتها الوطنية وسلامة أراضيها وللقوانين الدولية، وإن ادعاء واشنطن بالتواجد في سورية لمحاربة تنظيم (داعش) الذي لعبت دوراً رئيسياً في إنشائه هو مجرد ذريعة لمواصلة احتلال أراضي هذا البلد ونهب ثرواته الوطنية بما في ذلك الطاقة والحبوب، ورفض المتحدث باسم الخارجية الإيرانية اتهامات المسؤولين الأمريكيين ضد إيران، مشيراً إلى أن توجيه اتهامات لا أساس لها ومن ثم إطلاق أحكام بناء عليها هي طريقة عفا عليها الزمن، لافتاً إلى أن المستشارين الإيرانيين لعبوا دوراً مهماً في مكافحة الإرهاب إلى جانب القوات المسلحة والشعب في سورية وهم يتواجدون على أراضيها بناء على طلب من حكومتها بهدف المساعدة في محاربة الإرهاب، وسيكونون دوماً إلى جانبها لإحلال السلام والاستقرار والأمن الدائم.
ـ التصريحات الأمريكية التي تلت الرد على العدوان والتهديد بالرد على الرد كانت مرتفعة السقف في الساعات الأولى، لكن سرعان ما بدأت وتيرتها تخفت إلى أن كشفت لاحقاً صحيفة “نيويورك تايمز” أنّ “البيت الأبيض توقّف عن شن جولة ثانية من الضربات الجوية في سورية خوفاً من التصعيد”، كما كشف مسؤول أميركي أنّ البيت الأبيض تراجع عن قرار مواصلة “استهداف حلفاء إيران”، بعد الضربات التي شنتها الولايات المتحدة على مواقع في سورية، والرد الذي تلقته باستهداف قواعد لها في دير الزور، ووفق صحيفة “نيويورك تايمز”، قال المسؤول إن “الطائرات الحربية الأميركية كانت تستعد لشن جولة ثانية من الضربات الانتقامية في ساعة متأخرة من مساء الجمعة، لكن البيت الأبيض أوقف الأمر”، ونقل عن مسؤولين في إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن إن “الجيش الأميركي مستعد للرد على أي تهديدات جديدة للأفراد الأميركيين، لكنهم بدوا أيضاً حريصين على تجنب تصعيد الضربات، ذهاباً وإياباً، إلى حرب أوسع مع إيران وحلفائها”.
ـ بتاريخ 26/3/2023م. نُقِل عن النائب الأمريكي “رجا كريشنا مورثي” إن الجيش الأمريكي لن يغادر سورية بعد سلسة الهجمات التي شنت على القواعد الأمريكية وأسفرت عن مقتل أمريكي وإصابة آخرين، والأمر ذاته أكده العقيد جورج بوخ قائد القوات الجوية الأمريكي في قاعدة علي السالم الجوية بالكويت على هامش زيارة عدد من ممثلي الصحف المحلية للقاعدة الجوية موضحاً إن الجيش الأمريكي لن يغادر منطقة الشرق الأوسط، نظراً لأهميتها بالنسبة للولايات المتحدة، وأضاف أن القوات الأمريكية موجودة في المنطقة لحماية مصالح الولايات المتحدة وشركائها في المنطقة، وردع أي تهديد إرهابي، وأضاف “على الرغم من وجود منافسة مع الصين وروسيا وإيران فنحن ما زلنا في آسيا وفي أوروبا ولدينا شراكات قوية في المنطقة..” وبعدها وبالتدريج بدأت تخفت وتيرة التصعيد الأمريكي والتصعيد المقابل، في حين زادة وتيرة الاعتداءات الإسرائيلية، وهو متوقع في ظل الاضطرابات الداخلية الإسرائيلية، و التوتر غير المسبوق بين إدارة بايدن وحكومة نتنياهو.
قراءة في التصعيد ودلالاته وتداعياته المحتملة:
لاشك أن التصعيد غير المسبوق الذي شهدته مدينة دير الزور ليس وليد الصدفة، ولا هو نتيجة ثانوية غير متوقعة لحسابات غير دقيقة من الجانب الأمريكي أو محور المقاومة، بل هو محطة مهمة في هذا الصراع المزمن وغير القابل للحل إلا بانكسار إرادة وانتصار أخرى، وبعيداً عن الأمنيات والتفاؤل غير المبني على أسس موضوعية يمكن القول: إن الكفة ترجح لصالح أطراف محور المقاومة، ولإثبات صحة هذا الاستنتاج المسبق أتوقف عند بعض النقاط التوضيحية المتعلقة بدلالات ما حدث من وجهة نظر تحليلية، ومنها:
• الإعلان الأمريكي رسمياً عن استهداف نقاط للمقاومة حتى ولو كانت عسكرية صرفة يوصل رسالة مفادها أن واشنطن قررت طي صفحة الاستهداف مجهول الهوية والتبني، على أمل أن تردع الهيبة الأمريكية جميع الأطرف عن التفكير بالرد المباشر، ولو قُدّرَ لها النجاح في بلوغ ذلك لكنا أمام مرحلة جديدة من الصراع عنوانها زيادة الغطرسة الأمريكية وتعزيز وجودها العسكري المباشر في كامل المنطقة أكثر فأكثر.
• الرد المباشر والإعلان الإيراني الرسمي عن دعم المقاومة الشعبية المتنامية، والتهديد بالرد وتنفيذ التهديد حشر الأمريكي في الزاوية الضيقة، ووضعه أمام خيارين لا ثالث لهما، فإما أن يتلقى الضربة الجوابية ويبتلع مرارة لعق بصاقه بالصمت والامتناع عن الرد، لأن هناك رد حتمي على أي رد، وإما أن يتحمل مسؤولية اشتعال المنطقة، وهذا ما يتفاداه الأمريكي لأنه لا يتناسب والأولويات المحددة والمعتمدة في أقبية حكومة الظل المتحكمة بالقرار الأمريكي، فالأولية اليوم لضمان استنزاف روسيا في أوكرانيا، ووضع حد للطوفان الصيني الذي انتقل بمنافسته من الجانب الاقتصادي الصرف إلى الجانب السياسي والأمني، وفي منطقة محسوبة تقليدياً أنها ضمن المجال الحيوي للجيوبولتيك الأمريكي.
• مسارعة البنتاغون للإعلان عن أن الطائرات المهاجمة انطلقت من قاعدة العيديد في قطر وليس من التنف كان القرينة الأولى الدالة على التخوف من التصعيد بعد أن صدر بيان المجلس الاستشاري وأشار إلى أن قاعدة التنف كانت منطلق العدوان، فجاء الإعلان عن قاعدة العيديد لتخفيف حدة الاشتباك الحتمي، لأن استهداف قاعدة التنف بشكل مباشر ومعلن عنه يفرض على الأمريكي الرد، لأن وجوده فيها بالأصالة، في حين وجوده في حقل العمر و كونيكو و الشدادي بالوكالة، فالواجهة للعميل التابع” قسد” وبالتالي يمكن تلقي الصفعة والسكوت، كما أن إمكانية استهداف القاعدة في قطر مستبعد في الحسابات الموضوعية، وهذا ما تلقفه الإيراني واستثمر فيه بحرفية عالية يمكن أن يبنى عليها الكثير.
• الاعتراف الأمريكي بوصول الطائرة المسيرة إلى هدفها وتحقيق إصابات في صفوف جنوده بما في ذلك قتيل وعدة جرحى يعني كسراً للمحرمات، والتذرع بأن منظومة الدفاع الجوي لم تكن تعمل بكامل طاقتها هو فشل إضافي، لأنه يقبل عدة احتمالات، ومن ضمنها قدرة المقاومة على استهداف منظومة الدفاع الجوي نفسها، وهذا يسئ لسمعة الصناعة العسكرية الثقيلة الأمريكية، ويقلل من الهالة التي تحيط بها واشنطن ترسانتها العسكرية، كما أنه يعطي زخماً جديد للطيران المسير الإيراني، ولاسيما أن بيان البنتاغون أكد أن الطائرة المسيرة المهاجمة إيرانية الصنع.
• الموقف المتشكل جراء استهداف قاعدة أمريكية بطائرة مسيرة لا يعني أن إيران كانت تخطط وتسعى لحدوث ما حدث، وبالتالي ليس بالضرورة أن يسجل ما حدث على أنه لإيران أو للمقاومة الشعبية التي بدأت معالمها بالتبلور، لأن الاستهداف أتى بعد عدوان إسرائيلي أخرج مطار حلب عن الخدمة، وغدا من المتعارف عليه أن يتم الرد على العدوان الإسرائيلي باستهداف القواعد الأمريكية انطلاقاً من أن سطوة واشنطن هي التي تبقي تل أبيب خارج إمكانية المحاسبة، حتى أن التقرير الاستراتيجي لمعهد الأمن القومي في تل أبيب وصف العمليات التي تستهدف القوات الأمريكية بأنها رد على الغارات التي تشنها “إسرائيل” على أهداف في الداخل السوري، إذن العنجهية الأمريكية هي التي مهدت لتبلور مثل هذا النجاح الجديد الذي يؤكد أن محور المقاومة يعد نفسه فعلاً لمواجهة أعم وأشمل، وأنه لا يخشى الجبروت العسكري الصهيو ـ أمريكي بغض النظر عن الطاقة التدميرية التي يمتلكها.
• انطلاقاً من النقطة السابقة وارتباطاً بما تم تداوله من فتور في العلاقات بين تل أبيب وواشنطن التي نقل عن رئيسها قوله: إن نتنياهو لن يدعى إلى البيت الأبيض في الفترة القريبة، وهذا يعني أنه يمكن فهم أحد أسباب زيادة وتيرة الاعتداءات الإسرائيلية على الداخل السوري كأحد أشكال الضغط الإسرائيلي على شاغل البيت الأبيض الحريص على عدم اشتعال بؤرة توتر أخرى طالما أن رحى الحرب على الجغرافيا الأوكرانية لم تصل نهايتها، ولم يتم بعد إرغام روسيا على التراجع عن بعض ما أعلنته في بداية انطلاق عمليتها العسكرية الخاصة في أوكرانيا.
• تكرار قصف القواعد الأمريكية في غضون حولي/24/ سعة، وامتداد نطاق القصف الثاني واتساعه والإعلان المسبق عنه يؤكد أن اليد الطولى في المنطقة لم تعد للولايات المتحدة الأمريكية، فطبيعة الرد أثبتت أن كل نقاط انتشار القوات الأمريكية محملة على بنك أهداف المقاومة، وهذا يعني ازدياد احتمال وقوع خسائر بشرية أمريكية في أي احتكاك ميداني مباشر، وهو ما يخشاه الجنرالات الأمريكيون.
• توقف التصعيد عند الحد الذي وصل إليه لا يعني انتفاء إمكانية تكراره، لكنه وإن تكرر فسيحمل معه حقيقة جديدة عنوانها الندية التي فرضتها المقاومة على واشنطن، وهي الورقة الأكثر ثقلاً نوعياً في موازين القوى على المستوى الاستراتيجي، وقد يكون من المفيد تكريس قاعدة الرد على القواعد الأمريكية بعد أي عدوان إسرائيلي على الداخل السوري، لأن ذلك يزيد اتساع الهوة بين تل أبيب التي ترى في تكرار اعتداءاتها تنفيساً عن احتقان داخلي يقترب من مرحلة الانفجار، مع الاطمئنان إلى أن عوامل القوة الإستراتيجية الأمريكية كفيلة بضبط إيقاع أي تصعيد محتمل، لأن مصلحتها الآنية تكمن في التفرغ لمواجهة روسيا والصين، وتأخير ما أمكن احتمال تشكل أقطاب عالمية جديدة تنهي الأحادية القطبية التي تتفرد بها واشنطن منذ عقود.
• على الرغم من الحديث المتزايد عن معارضة أمريكية داخلية تتسع في عدة ولايات وترفض استمرار بقاء القوات الأمريكية في سورية، إلا أنها لم تجد مرتسماً عملياً لها في الكونغرس بمجلسيه الشيوخ والنواب، وهذا يطرح على بساط البحث موضوع مساعدة الأمريكيين بزيادة عدد التوابيت عبر تفعيل المقاومة الشعبية وتقويتها ودعمها بكل ما تحتاجه، وهي كفيلة وقادرة في حال تبلورها من إقناع الكونغرس بمجلسيه على التصويت بنسبة مرتفعة للإسراع بسحب قواتهم، وجميع التجارب السابقة تؤكد أن الإدارات الأمريكية المتعاقبة جمهورية كانت أم ديمقراطية لا تستطيع تحمل ارتفاع فاتورة الخسائر البشرية، مع الأخذ بالحسبان أنه إذ كان الانسحاب مطروحاً سابقاً في الداخل الأمريكي فقد تسحب ورقته من التداول بعد حدة الاشتباك مع روسيا على الجغرافيا الأوكرانية، واقتحام الصين منطقة الخليج المحسوبة على النفوذ الأمريكي.
• بغض النظر عن مدى تأثير الولايات المتحدة الأمريكية في مفاصل صنع القرار السعودي من المهم اليوم التركيز على محورية دور الرياض في أي انحسار محتمل للنفوذ الأمريكي من المنطقة، وبقدر ما تقتنع القيادة السعودية بأنها لن تكون في مواجهة أية أخطار في حال خرجت أمريكا من المنطقة، وبأن دورها الفاعل سيتعاظم ولن يتقلص بقدر ما تكون المراهنة على إحداث تبدلات جوهرية في موازين القوى القائمة ممكنة، وهذا لا يعني الاصطدام المباشر مع واشنطن، بل إن مجرد التشبيك الفاعل بين السعودية وكل من روسيا والصين وإيران، والتخلي عن التعامل بالدولار كعملة حتمية كفيل بتشكيل البيئة المطلوبة لإحداث الخرق اللازم لبدء انهيار الأحادية القطبية، وقد لا يكون ذلك بعيداً.