كتب د . حسن احمد حسن | التحرير الثاني وانكسار أنياب الإرهاب
الدكتور حسن احمد حسن | باحث سوري متخصص بالجيوبوليتيك والدراسات الاستراتيجية
في مثل هذه الأيام قبل ستّ سنوات كانت جرود القلمون على امتدادها كرة ملتهبة، ولو قُدّر للأرض أن تنطق لصرخت ملء الفيه من هنا انطلق رجال الله يجتثون الإرهاب التكفيري المسلح، ويقوّضون روافعه مسطرين أروع دروس الإرادة عندما تزهر وتثمر بآن معاً…
قبل ست سنوات كانت الأرض تميد بعتاة طغاة امتهنوا القتل والإجرام، وعندما زغرد بأس رجال الحق أسقط في أيدي أولئك القتلة الإرهابيين، وأصيب مشغلهم بالذهول، وهو يتابع ويري كيف تكاد الجبال تتدكدك تحت وقع أقدام لا تعرف التردّد ولا الوجل، وجماجم أُعِيْرَتْ لله فارتفعت بهاماتها راية النصر، واكتملت حلقة كَنْسِ الإرهاب التكفيري المسلح بمختلف مسمّياته، ليتنفس لبنان وسورية أوكسجين تحرير الجرود من ذئاب الغدر والقتل والإرهاب الممنهج، بعد القضاء على أعداد كبيرة من المسلحين واقتحام مواقعهم وخنادقهم التي تهاوت بالتتابع كأحجار الدومينو، وتشظت تجمعاتهم التي كان يعوّل عليها مشغلها الكثير فإذا بأحلامه تتبدّد، وآماله تتبخر، وكلّ ما كان يسعى لبلوغه يتلاشى ويتسرّب كتسرّب الماء من بين أصابع الكف المرتجفة التي هال صاحبها ما يراه من بأسٍ وقوةٍ ومهارةٍ واندفاعٍ وتصميمٍ على اقتلاع الإرهاب وتطهير المنطقة من رجسه، ومما قد يخلفه من كوارث تهدد الجميع دونما استثناء.
الكيان الصهيوني أكثر مَن قرأ معاني تحرير الجرود بدقة، ودرس أدقّ التفاصيل والدلالات والمعاني والعبر المستفادة والمستخلصة، لأنه كان يعوّل الكثير على الجسم الإرهابي المسلح والمنتشر على امتداد الحدود السورية ـ اللبنانية، ويخطئ من يتوهّم أو يظنّ أنّ مَن زرع آلاف الكيلومترات بآلاف المسلحين المدرّبين المدعومين عسكرياً ومادياً واستخبارياً وعلى المنابر الدولية كان يخطر بباله أنّ كلّ جمعه بدد، وأنّ أعتى المسلحين الإرهابيين، وأكثرهم وحشية وخبرة قتالية سيُهزمون ويُسحقون أمام بصر مشغلهم، ولن يستطيع أن يغيّر شيئاً في اللوحة التي رسمت بإرادة المقاومين والرجال المؤمنين بأنّ قوة الحق هي المنتصرة مهما بلغت عربدة أنصار حق القوة وشريعة الغاب والجاهلية الجديدة التي أرادوا إحياءها ولكن هيهات لهم هيهات.
من غير الممكن لدراسة تحليلية مقتضبة أن تفي المعارك التي أثمرت التحرير الثاني حقها، ولعلّ التوقف عند الأهداف والسقوف العالية التي أعلنها المستثمرون بالإرهاب التكفيري المسلح تقرّب إلى الذهن فهم عظمة ما تمّ إنجازه في التحرير الثاني، واستناداً إلى ذلك سأتوقف عند بعض النقاط والعناوين الرئيسة التي قد تساهم بتوسيع بيكار الرؤية للصورة، ومنها:
ـ استهداف الدولة السورية بهذا العدد الكبير من المسلحين والسلاح وتجميع الإرهاب من شتى أنحاء الكون والزجّ به على الجغرافيا السورية كان حلقة في مشروع أكبر هدفه تشظية دول المنطقة وتفكيكها وإعادة تركيبها وفق أسس اثنية وعرقية ومذهبية وطائفية ليبقى الكيان الإسرائيلي المهيمن وصاحب اليد الطولى في كلّ ما يتعلق بشؤون المنطقة.
ـ بلوغ الهدف المحدّد في الفقرة السابقة يستلزم تخليص الكيان المؤقت من كل ما يهدّد هيمنته وتفرّده، وتأتي المقاومة بالدرجة الأولى، ولذا كان المطلوب بلوغ ما عجزت تل أبيب عنه في حرب تموز وآب 2006، ونشر جحافل الإرهاب المسلح على امتداد الحدود السورية ـ اللبنانية كان المقدمة المطلوبة، والرافعة الأساسية التي نصبت للانقضاض على المقاومة والقضاء عليها واجتثاثها إن أمكن.
ـ من بين الشعارات والمصطلحات التي تمّ ترويجها في السنوات الأولى من الحرب على سورية والمقاومة مصلح” سورية المفيدة” ودولة “حمص ـ طرابلس” وكلاهما يتضمّن تقسيم الدولة السورية، فمصطلح “دويلة حمص ـ طرابلس”/ يعني السيطرة على بقعة جغرافية مفتوحة على البحر، ومنه إلى طرابلس فالقاع ووادي خالد وصولاً إلى سلسلة الجبال الممتدة على طول الحدود السورية اللبنانية، والمطلة على القصيْر ومنها إلى حمص وباديتها المفتوحة حتى الحدود السورية العراقية والأردنية، وهذا يعني شطر الجغرافيا السورية وتشظيتها إلى أربعة أقسام على الأقل: قسم يضمّ المحافظات الجنوبية: دمشق ـ ريف دمشق ـ القنيطرة ـ درعا ـ السويداء، ويمكن العمل على تقسيمه لاحقاً، وقسم يضمّ محافظتي المنطقة الوسطى: حمص وحماة، وبعض محافظات المنطقة الشرقية: دير الزور، وبعض مناطق الرقة، وقسم ثالث لحلب وإدلب والحسكة وبعض الرقة، وتبقى المحافظتان الساحليتان: طرطوس واللاذقية مطوّقتين بشكل كامل من دون أيّ منفذ بري، مع الاطمئنان إلى أنّ القوة المسيطرة في البحر والمياه الدولية محصورة بأميركا وأتباعها “هذا قبل دخول الأصدقاء الروس نهاية أيلول 2015.
ـ التقسيم النظري السابق كان يتمّ الاشتغال عليه، وهذا يفسّر التركيز على حمص في الأشهر الأولى والزجّ بأكبر عدد من المسلحين للسيطرة على القصيْر وما حولها، وهذا بدوره يفسّر الإصرار على تطهير “تل مندو” و”القصيْر” أولاً، واعتبارهما بوابة مسيرة التحرير التي انطلقت بتسارعات وتحرك مضبوط الإيقاع، ويمكن لأيّ متابع أن يتخيّل الواقع الذي كان سيحكم المنطقة لو تمكن رعاة الإرهاب التكفيري ومشغلوه فرض “دويلة حمص ـ طرابلس” وما يعنيه ذلك من بتر مفروض بين المقاومة وبين عمقها الاستراتيجي المتصل بإيران عبر البوابة العراقية.
ـ تركيز الإرهاب التكفيري المسلح داعش والنصرة على بعض البلدات والقرى المسيحية يدلّ على توجه خبيث لطالما ردّده الغرب الأطلسي تحت عناوين مختلفة، لكنها تلتقي على فكرة إخلاء الشرق من المسيحية والمسيحيين، وفي ضوء هذا يمكن فهم اجتياح بلدة “صدد” في ريف حمص الشرقي مرتين، والوحشية في الدخول إلى صيدنايا وبقية البلدات المسيحية في ريفي حمص الشرقي والغربي التي استمات رجال المقاومة في الدفاع عنها والدفاع عن سكانها وحماية مقدساتها.
ـ تطهير الجرود من الجماعات التكفيرية المسلحة لا تقتصر تداعياته ودلالاته على توقف إرسال السيارات المفخخة إلى الداخل السوري والداخل اللبناني، ولا على إبعاد خطر أولئك عن المدنيين والممتلكات الخاصة والعامة، بل يجب النظر إلى الأبعد الذي تجسّد على أرض الواقع، فمنذ 28/8/2017 لم يتمكن تنظيم داعش ولا النصرة ولا بقية التنظيمات الإرهابية المسلحة من السيطرة على أية بقعة جغرافية جديدة، بل على العكس بدأت مسيرة الانحسار والتلاشي والطرد وتحرير مساحات جغرافية واسعة من سيطرتهم، وكان للأثر النفسي الذي خلفته معارك التحرير الثاني الدور الأساسي في إنجاز التحرير بأقلّ خسائر ممكنة.
ـ معارك التحرير الثاني تركت بصمتها الذاتية على الفكر العسكري، وقدّمت قيمة نوعية مضافة في الكثير من المجالات، وهذا يحتاج إلى بحث مستقل ومستفيض، لكن وبسرعة وإيجاز أشير إلى بعض العناوين:
ـ التنسيق العالي بين مقاتلين مقاومين وبين جيوش نظامية، وقد أبدع حزب الله في الاضطلاع بهذا الدور، حيث التكامل بين أداء الجيش اللبناني على الجانب اللبناني من الحدود، وتوزيع الأدوار والمهام المطلوبة تنفيذها بالتنسيق بين الجيش العربي السوري وقوته النارية وتعدد صنوفه وما يستطيع القيام به، وبين المقاومة وما يتمتع به رجالها من مهارة ولياقة بدنية وقدرة فائقة على التحرك والانقضاض والاشتباك من الحركة وكثير غير ذلك.
ـ رباطة الجأش والقدرة الفائقة على التحكم بالنار وضبط التحرك على الأرض، ففي العديد من المعارك كانت القذيفة الأخيرة من المدفعية السورية هي الطلقة الأولى في الاقتحام الذي نفذه رجال المقاومة، أيّ الالتحام مع العدو من المسافة صفر، وهذا يعني الكثير وفق المنطق العسكري وخوض الأعمال القتالية المشتركة.
ـ الرد على تكتيكات داعش وبقية التنظيمات الإرهابية المسلحة بتكتيكات تفقد العدو القدرة على الفاعلية والتأثير، وهكذا كان الردّ على تكتيك التسلل والإمداد الليلي بالكمائن النوعية الناجحة التي أوقعت خسائر كبيرة في صفوف المسلحين، وخير مثال على ذلك الكمين الذي تكرّر تنفيذه في منطقة العتيبة والممر الواصل بين جرود فليطة وما حولها بالغوطة الشرقية.
ـ مواجهة تكتيك العمليات الانتحارية والمفخخات التي يقودها انتحاريون بدقة الرصد والمتابعة واستمراريته على مدار الساعة، وبالصلابة والثبات في المواقع القتالية والتعامل الواثق بالنفس وبالسلاح، واستهداف تلك العربات المفخخة بالتوقيت المناسب، وضمن المسافة الآمنة التي تحافظ على حياة من قهر الإرهاب وداعميه.
خلاصة
معارك التحرير الثاني إضافة نوعية للفكر العسكري العالمي، وأكثر ما يقلق جنرالات العدو الصهيوني اليوم تلك الخبرات النوعية التي راكمها المقاومون من تلك المعارك، وإذا كان مشروع الاستهداف العسكري المباشر لسورية والمقاومة قد سقط من حسابات المشتغلين بالإرهاب وداعميه، فالفضل الأول في هذا السقوط يعود لأولئك الميامين الذي سطروا بتضحياتهم وإقدامهم ووفائهم أسمى آيات البطولة والبسالة وأداء الواجب بأفضل ما يمكن.
الرحمة والخلود لجميع الشهداء الذين ارتقوا دفاعاً عن قيم العزة والسيادة والكرامة في معارك التحرير الثاني وجميع المعارك والمواجهة المفتوحة مع أعداء الله والإنسانية، وكلّ عام وهذا النهج المقاوم الواثق المقتدر المتجذر بألف خير.