■ كتبت في الذِّكْرى السّنوية الأُولى لِرَحيل اللِّواء الدكتور السَّفير “بهجت سُلَيمان” ، لروحه النقِّية السَّلام.
● مِن قِمَمِ جِبال ِساحلِ البَوّابة الشرقيّة للمتوسّط ،في بلاد الشّام ، في ضيعةٍ غافية على كتف مدينة “القرداحة ” ، و في السابع من نيسان ،من عام 1949 تسللت خيوط نور فجر هادئ وادع من بين أجفان فارس جميل ونبيل ليبدأ رحلة أشبه بحكايات الأساطير القديمة ، وكأنّ الله لبى اشتياق ضيعته ” زنيو” للتاريخ الذي تحاكيه بكل قسماتها ، فاستحضره بفارس شاء له أن يبدأ رحلته في كنف أبوين ، تلقفاه بشغف وعشق ربّاني ، وإيمان بأن هذا القادم الجديد هو نسيج وحده ، فسارع الأب إلى تلبية نداء داخلي ، ليستقدم شيخا لتعليم وتحفيظ القرآن الكريم الى القرية ، ولم يكن ولده قد بلغ الرابعة من العمر، حيث استضاف الشيخ “علي أحمد” مع عائلته لعامين حتى أتمم نجله ” بهجت ” حفظ القرآن الكريم ، مما أهّله ليبدأ دراسته في مدرسة القرية من الصف الثالث الابتدائي مباشرة ، أربع سنوات فقط أمضاها في القرية ، ومن ثم الإنتقال إلى مدرسة داخلية لثلاث سنوات ، ومن بعدها في مدرسة “جول جمال” في مدينة اللاذقية ، ملتحقا بعائلته التي انتقلت الى المدينة في أوائل ستينيات القرن الماضي ، نظراً لظروف استدعتها توسعة العمل التجاري للوالد.
ستة عشر عاما كانت كافية لتجعل فارسنا النبيل والجميل رجلا ناضجا تشي كل تفاصيله بتمايز ،جعله في موقع الريادة أخلاقا وسلوكا ومعرفة ، وهو الذي لطالما كان شغوفا في قراءة الفلسفة والتاريخ والمعرفة والشعر ، ومن نافلة القول أنه كان ضليعا في اللغة العربية وهو الذي حفظ القرآن الكريم قبل أن يُتِم السادسة من عمره .
ولأنه عشق العطاء ، لقي ضالته في التعليم فمارسه في ثانوية بلدة الحفة لبضعة أشهر ، كانت على قصرها كافية لتترسخ صورته كمعلم شغفت به قلوب وعقول تلامذته الذين استمر جلهم في تواصل دائم معه .
نعم أراد أن يكون معلماً ومحاضراً في إحدى الجامعات ، لأنه عشق العطاء وعشق الفكر والمعرفة ، إلا أنّ القدر شاء له أن يدخل ميدان الدفاع عن الوطن الذي عشقه وتغنى به ومضى العمر مدافعا عنه ، ولربما تشي تلك الكلمات للمرة الأولى أن القائد الراحل حافظ الأسد كان له دور في رسم مسار تلك الرحلة ، فالوالدة التي كان يُتاح لها فرصة اللقاء بالقائد الراحل مذ كان وزيرا للدفاع ، لقرابة تصلها به ،أخبرته أن ولدها بهجت مزمع على السفر الى الخارج لمتابعة تحصيله العلمي بالقدر والمستوى الذي يستحقه ، في إحدى الجامعات الأوروبية المتميزة ، وقد كان الرأي الحصيف للقائد أن “بهجت” الذي عُرف بذكائه ، يحتاجه الوطن وأن خير تلبية لحاجة الوطن هو الانتماء الى ميادين الدفاع عنه عبر الإنضمام الى صفوف قواته المسلحة ، وأن العلم والتعليم والفكر والمعرفة، ليس محصوراً في ميدان الجامعات فحسب ، بل يتقدم عليها الانتماء لصفوف الجيش العربي السوري.
وقد كان فارسنا الجميل خير أمين ومؤتمن على مسؤولياته الوطنية ، فقاتل في حرب تشرين كقائد لسرية دبابات ، ودافع عن ثغر العاصمة في مواجهة الغزو الإسرائيلي في عام ١٩٨٢ إبان الغزو الإسرائيلي للبنان، كقائدٍ للواء دبابات ،كما عمل في السلك الأمني ،وقد سعى لإعادة صياغة العمل الأمني ، مذ بدأ رحلته في هذا المجال ، رافعا شعار أن الأمن ينبغي أن يعني الأمان ، و أنّ عمل رجل الأمن وقائياً ،لحماية الانسان ووقايته من الوقوع في الخطأ وصونه من تبعاته .
إنتقال اللواء بهجت سليمان ،من المجال العسكري إلى عالم الديبلوماسية ،إبان عمله كممثل لبلاده في الأردن عام ٢٠٠٩ ولغاية عام ٢٠١٤ ،والتي كانت فيها حركة السفير ونشاطاته موضع متابعة وتقدير واهتمام ليس مسبوقاً ، قد عزّز حقيقة أن الراحل يتمتع بفرادة الشخصية القيادية ، بما اتسم به من حكمة وحنكة ومعرفة ،مكنته من الإضّطلاع ،وبكفاءةٍ رفيعة المستوى ، بجميع المهمات مهما تباينت .
بالتأكيد أن الكلمات والتعابير ومهما طُوِّعت ، ستبقى قاصرة ، دون إمكانية الخوض في الحديث عن الراحل بما يفيه حقه وينقل صورة تكاد تكون قريبة من حقيقته .
وربما قد يكون سرد بعض من الوقائع والحقائق في مسيرته ، نافذة لمعرفة المزيد عن سيرته ،لكل محبيه ومن لديهم الرغبة و لربما الفضول في معرفته أكثر .
■ إضاءات مشهديّة في يوميات الفارس الراحل
“أبو المجد “:
١•أصرّ الملازم أول بهجت على الاضطلاع بمهمة قتالية ذات طابع استشهادي في حرب تشرين ١٩٧٣ حيث كان قائدا لسرية دبابات ،قبل ان تصدر أوامر بالعودة عنها لاستحالة تنفيذها كما رواها كل من رفيقيه في السلاح .
٢•قائد سرِيّة الدبابات “بهجت سليمان “لطالما كان يُحثّ ضُبّاطه ،على القراءة مردداً على مسامعهم ، أنّ المقاتل ينبغي أن يتسلح بالمعرفة كما يتقن فنون الدفاع عن الوطن.
٣•علاقة عشق بين القائد العسكري بهجت سليمان وجنوده لطالما كانت تلازم فارسنا طيلة مسيرته العسكرية، التي اتسمت بقدرٍ كبير من الوجدانيات والإحترام والتقدير لمرؤوسيه .
٤•اللواء “41 ” دبابات ،الذي أُوكِلت “للمقدم بهجت سليمان” مهمة تشكيله وقيادته ، والذي اضطلع بمهمة الدفاع عن أحد ثغور العاصمة على الحدود اللبنانية في مناطق ” رخلة وينطا ” في صدّ العدوان إبان الغزو الإسرائيلي للبنان عام ١٩٨٢ ، كان يُحسب له الحساب من قِبَل قوى العدوان المتمركزة على بُعد عشرات الأمتار ، وذلك حسبما كان يُرصد من أحاديثهم ، نظرا لتدريبهم العالي والعلاقة الوجدانية العالية التي تربط قائد اللواء بضباطه وجنوده والتي ارتقت بمعنوياتهم عالياً .
٥•المقدم بهجت قائد اللواء يفرض بحق أحد ضباطه عقوبة هي ” قراءة كتاب ” عند ارتكابه لخطأ.
٦•لطالما كان يُشاهد الضابط بهجت سليمان منكبّاً على قراءة كتاب .
٧•مواقف إنسانية عالية في تقديم العون والمساعدة والمساندة ،لرفاقه في السلاح من ضباط وجنود ،اتسمت بها مسيرة الضابط بهجت سليمان .
٨•مكتبة عامرة بمئات الكتب النوعية كانت مثار انتباه وإعجاب كل من زاره ، حرِصَ على نقلها معه إلى كل الأمكنة التي أوكلت فيها المسؤوليه إليه ،وقد درج على كتابة أفكار ومختصرات لها في مذكرات صغيرة بلغت العشرات .
٩•دماثة واحترام اتسم بهما “بهجت سليمان “في استقبال ضيوفه وحرص على لقائهم بترحاب كبير ، بغض النظر عن مكانة الزائر .
١٠•العمل الديبلوماسي الذي اضطلع به السفير بهجت سليمان في الأردن أضفى قيمة غير معهودة على طبيعة العمل الديبلوماسي ومعاييره ، ولقد أكسب موقع السفير السوري في الأردن اعتباراً ،لم يكن معهوداً من قبل ، ولم تثنه خلال عمله الديبلوماسي في الأردن التهديدات ومحاولات الاغتيال العديدة ،التي كان مُزمَعاً تنفيذها ضده ،عن مواجهتة خصوم وأعداء بلاده وفضحهم وتعريتهم بكل جرأة وشجاعة واقتدار وتصميم ، رغم إدراكه أنه في جغرافيا يتمتعون فيها بالمقدرة والنفوذ ، كما أفسح في المجال لتظهير المواقف المبدئية لشرائح واسعة من الشعب الأردني الشقيق نحو الحرب على سوريا .
١١•لقد كانت تربط الراحل علاقات صداقة مع شريحة واسعة من المثقفين في بلاده وعلى امتداد الوطن العربي وبلدان الاغتراب، كما حرص على ان يلتقي المختلفين معه بالرأي والموقف والايديولوجيا ،وقد اتسمت الحوارات التي كانت تجري معه بمساحة واسعة من الحرية والأريحية والاحترام المتبادل ، ما جعل حتى خصومه في الرأي والموقف يكنُّون له التقدير والمودة والاعجاب .
١٢•اللواء بهجت من أوائل من استثمروا منصّات التواصل الاجتماعي ،واستطاع بمقدرة ذاتية وإمكانات فردية أن يُشكل حالة فكرية إعلامية فريدة في نشر القيم والأفكار التي يؤمن بها في سبيل الدفاع عن بلاده ، فقيل عنه أنه ” جيش إعلامي ” ، وقد باتت صفحته ” خاطرة أبوالمجد “متابعة على امتداد الوطن العربي ، والمغترَب ،وكان لها التأثير البالغ في النفوس ،ما جعل الصفحة وصاحبها هدفاً يومياً للنيل منه من قِبل جيش من الأقلام ووسائل الإعلام على تباينها “و توجُّهاتها معروفة و ليست بخافيةٍ على أحد ” ، لا لشيء سوى أنه يدافع عن قناعاته وما يؤمن به صوناً لبلاده .
١٣•لقد تم إيقاف صفحات عديدة للراحل “بهجت سليمان” ، ولطالما كانت هناك محاولات مستميته لثنيه عن متابعة نشره لأفكاره وقناعاته، لما لها من دورٍ في شدّ العزائم والهِمم ،ونشرِ الأمل والإيمان بمقدرة بلاده على مواجهة العدوان ضِّدها ،وقد استمر هذا الإستهداف لسنوات ، ما حدا به إلى تأسيس مجموعة مغلقة على تطبيق ” واتس أب ” أسماها ب ” سيوف العقل مع بهجت سليمان ” ضمّت باقة من خيرة المثقفين ،من المفكرين والإعلاميين والكُتّاب والأدباء والإختصاصيين والسياسيين والعسكريين والديبلوماسيين ، من شتى أنحاء البلاد العربية والمُغترب ،تجري فيها حوارات ونقاشات مبرمجة وعلى سويّة فكرية رفيعة ، ومازالت تلك المجموعة حتى الساعة ، بذاتِ السويّة والحماس الذي عهدته قبل رحيل مؤسسها .
١٤•حَرِص اللِّواء بهجت سليمان ،طيلة الفترات الزمنية التي لم يكن يشغل فيها أي من مواقع المسؤولية ، وكذلك بعد عودته من مهمته الديبلوماسية الأخيرة في الأردن ، على الالتزام بدوام يومي يصل إلى” إحدى عشرة ساعة ” يومياً في مكتبه الخاصّ ” الذي كان منزلاً له ،ابتاعه له والده في أوائل السبعينيات” ، وكان يُفرِد جُلّ وقتِهِ و جهده للدفاع عن بلاده وقناعاته التي يرى أنها في خدمة وطنه ،ويقضي وقته في القراءة والتواصل مع زواره من النُخب الفِكريّة ، ليس في سوريا فحسب ،بل من شتى البلدان العربيّة ،حيث كانوا يَرون في الرّاحل الدكتور بهجت ملاذاً فكرياً و وطنياً و عُروبياً ، يمنحهم جُرعات من القوة والأمل .
١٥•في قرية الراحل ، قلما تجد عائلة لا يوجد فيها من ناله واجب المساعدة ” وشرفها” منه ،فلقد قدم الدعم بكل صنوفه لتلك القرية ،التي قضى فيها سِنيّ طفولتهِ ،ولم لتكن تلك الفترة الوجيزة حائلاً بينه وبين متابعته لشؤونها وأحوال أهلها واحتياجاتهم ،وكأنه مازال يحيا بينهم ، و إن ذلك يكمن وراء حبّهم وتقديرهم الكبير للراحل ،والذي نقلوه بدورهم للأبناء والأحفاد ،حتى بات ” أبو المجد ” أيقونةً و مثالاً يتغنَّون ويحتذون به ، وقلّما يجد المرء علاقة بين إنسان وأهل قريته كالتي يمكنك أن تلمسها بين الراحل وأهل قريته .
١٦•مئات الرسائل وعبر مختلف وسائل التواصل والاتصال ،وصلت من أشخاص على امتداد البلاد والمغترب ، تخبر أن الراحل قدم المساعدة والعون والمساندة لهم دون حساب ، وأنهم فقدوا برحيله ملاذاً للمظلوم والمحتاج ، و كان من اللافت حرصهم على التنويه أنه كان يحيطهم بقدرٍ كبير من الودّ والإحترام ،جعلتهم يصفونه بالأب الروحي والأخ الكبير لهم .
… لقد عبَرَ فارسنا النبيل والجميل سريعاً ،كحُلُمِ جميل صحونا منه قبل أن يكتمل، وكأن قَدَرْ الفُرسان أن يُومضون كالبرق ،فلا تكاد قلوبنا وعقولنا أن تلتقط نفحة من عبق أرواحهم الزكيّة ،حتى يرحلون ،ليتركون حرقة في قلوب محبيهم لا تفارقهم ، وليدركون قيمتهم بعد رحيلهم أكثر ، ولربما تَعَزَّز الإدراك لتلك القيمة مع تقادم الزمن .
ولكن يبقى عزاء محبي الراحل ،أنه مازال حيّاً بينهم بفكره و روحه ومواقفه ومبادئه ،و بالقيم الوجدانية العالية التي لازمته طوال رحلته ، فلقد ترك لنا إرثاً كبيراً يمكننا أن ننهل منه دون أن ينضب ، عمّدتهُ تجربته الثرية بالأحداث ، والحافلة بقيم ومواقف ، ما أحوج محبيه اليها اليوم .
لقد صعدت روحه الى عليائها وهو الذي كان يدرك الكثير من مفاتيح سر الروح ، فقد تشابكت فيه خلايا الجسد بأثير الروح ، فغادرَنا مُبتسما نحو سِفْر الرُّوح الذي خَبِرَهُ واختمره جيدا ” و هو المُشبع بعلوم الفلسفة”، ليتركنا في شقائنا الدنيوي المادي ، نحو عالَمه النُّوراني الأبديّ .