الدكتور احمد عز الدين | باحث مصري في الشؤون الإستراتيجية
سيظل الدم كالحقيقة ، لا تغطيه رمال الزمن ، ولا تجففه أكاذيب الشاشات المشتراة المباعة .
خمسون طفلا وأمرأة ورجلا ، أكبرهم تجاوز السبعين ، وأصغرهم لم يتجاوز فمه صدر أمه ، لأنه مازال يتنفس هواء يومه الثلاثين ، حولهم صاروخ أمريكي إلى أشلاء ورماد ، حول بركة دم شوتها النيران .
لقد فروا بأطفالهم ونسائهم ، من بيت إلى بيت ، في محيط قريتهم ، فزعا من الطائرات التي تتبع دمهم كالذئاب الجريحة ، لكن الطائرات التي كانت تلعب وحدها في سماء مفتوحة ، برهنت على قدرتها الفائقة على المناورة ، وعلى قدرتها القتالية الرفيعة ، وهي تلتقط أنفاسهم المفزّعة ، وصرخاتهم المكتومة ، تحت سقف بيت متآكل ، أحناه الزمن ، كما أن غرف العمليات المركزية ، التي تعطي أوامر القصف للأهداف الاستراتيجية ، فوق شاشات الرادار ، لم يتردد المسؤلون فيها ، من الأمريكيين والإسرائيليين ، عن إعطاء أمر قذفهم بصاروخ ذكي ، برهن بدوره ، كما برهنوا جميعا ، على عظمة ما لحق بأدوات الحرب ، من تطور وتقدم ، في ميادين رصد أنفاس الأطفال والنساء وقتلهم بطلقة واحدة .
أي نجاح وأي انتصار لغرفة العمليات المركزية وللطائرات والطيارين ، فلهم أن يتباهوا فخرا به وبأنفسهم ، فقد برهنوا على مقدار شجاعتهم وقدرتهم وكفاءتهم القتالية ، ويقظة ضمائرهم ، بعد أن لقنوا هؤلاء الأطفال وأمهاتهم وآبائهم ، درسا في الإنحناء المذل ، والقهر الإنساني ، والاستسلام غير المشروط ، فوق أنهم منحوهم فرصة ألا يقتلوا في المستقبل ، إذا ما كبروا وحملوا السلاح ، دفاعا عن وطنهم ، وعمّموا هذا الدرس النجيب ، على أقرانهم من المدنيين ، ممن لم تصل إلى أجسادهم بعد ، هذه الصواريخ الذكية!.
الجبناء وحدهم ، هم الذين يفرون كالدجاج من ميادين القتال ، ثم يذهبوا ليفرغوا جبنهم وضعفهم وحقدهم ومذلتهم ، في أجساد الأطفال والنساء ، والراكعون تحت أقدام أمريكا وحدهم ، هم الذين يتصورون ، أن الشعوب يتحتم عليها أن تركع ، ويتحتم عليها أن تبتلع الهزائم ، كأنها أقراص الأسبرين ، لأنها ليست مجبولة على المقاومة ، وإنما مجبولة على الاستضعاف والخنوع ، وأنها لا تملك إلا رايات بيضاء ، تعلقها كأجنحة الدجاج ، على شرفات البيوت .
محنة القاتل المأجور ، أنه يظن أنه قويّ، لأنه مأجور يتمدد في ظلّ سيده ، ومحنة القاتل المأجور أنه يظن في قلب هزيمته ، أنه منتصر ، لأنه يعتقد أن سيده سينتصر له ، بينما سيده لم يعد قادرا على أن ينتصر لنفسه ، وبينما سيده سيرميه كمخلفات المعارك ، عندما ينتهي من آداء دوره .
ماذا بقى من عباءة العروبة الممزقة ، التي تضم القاتل والقتيل ، ماذا بقى من خير أمة أُخرجت للناس ، إذا كان الانفصام قد بلغ بها حد ، أن تقتل نفسها بنفسها ، وأن يتقدم بعضها ليحمل الراية التاريخية ، لدحرها ، وهزيمتها ، وإفنائها ؟!
للأسف الشديد ، إنهم يزرعون بذور ثأر ، لن تنبت إلا شجر الزقوم ، وللأسف الشديد ، إنهم يبنون للثأر ، نصبا تذكارية ، لن تكون سوى منجم ، للكراهية والإنتقام ، فالأجيال التي تولد من الدم ، ستعيش بالدم ، وستتمدد بالدم ، وستطول ثأرها ملطخا بالدم ، فدراما يوليوس قيصر المأساوية ، ظلت قابلة للتحقق حرفيا ، عبر فصول التاريخ ، ولم تكن ذروة الدراما المأساوية ، أنه عاش بالسيف ، وإنما في أنه بحكم قوانين الطبيعة ، مات بالسيف أيضا .
تلك هي الحقيقة الباقية : سينتصر الدم ، لأن السيف سيصدأ ، وسيبقى الدم حيّاً..!