الدكتور احمد عز الدين | كاتب وباحث مصري في الشؤون الإستراتيجية
يبدو لي أن السمة الأكثر وضوحا في الخطاب الإعلامي العام ، أنه بات متدنيّا فكريا ، ومتهاويا قيميّا ، ومزعزا وطنيا ، ولا أريد أن أقول مخترقا ، رغم أن وصف بعض وجوهه على هذا النحو ، قد لا يجافي الحقيقة ، ولذلك فإنه ليس خطاب وعي ، ولكنه خطاب جهالة ، وليس خطاب حكمة ، ولكنه خطاب غواية ، وليس خطاب وحدة ، ولكنه خطاب فُرقة وانقسام .
ولذلك – أيضا – فإن الحديث عن المصالحة مع الإخوان ، أو حتى مع دوائر المتعاطفين معهم ، ليس مجرد نزوة سياسية ، قام بها عقل معزول ، لحسابه الشخصي ، كما أنه ليس تعبيرا عن شهوة ذاتية للشهرة والحضور القوي بين الكلمات السابحة في الفضاء العام ، حتى لو كان الحديث على شاكلتها ، شيئا يشبه عوادم الدخان ، التي تلوّث الشوارع العامة ، ولا تنتج إلا مرضا ، وتوترا ، وغشاوة .
والحقيقة كما أراها أننا ليس في إطار هذه الدعوة فحسب ، بل وفي إطار سواها من المفردات ، التي تزدحم على سطح هذا الخطاب ، إنما أمام عملية تلاعب مدروسة بالرأي العام المصري ، لتغليب مصالح جماعات ضغط منظمة ، تتقاطع مع المصالح الجوهرية للدولة المصرية ، بقدر ما تتوافق مع مصالح استراتيجية لقوى خارجية ، إقليمية ودولية .
لقد هبّ البعض بعد رفض الرأي العام المصري لدعوة المصالحة مع الجماعة ، ليعيد تزيين الدعوة بأنها لا تشمل الجماعة ، وإنما المقصود بها المتعاطفين معها ، وهم على حد تعبير رئيس لأحد المراكز البحثية ” لا تتحكم فيهم عقيدة الإخوان ” ، وهو فصل غريب وشاذ ، بين هذه العقيدة ، والمتعاطفين معها دون أن يكونوا في بنيتها التنظيمية ، لأنهم إذا لم يكونوا حقا ، غير متعاطفين مع العقيدة ذاتها ، فكيف لهم أن يتعاطفوا مع أفعالها ومنتوجها ، في الواقع المادي المعاش ، وقد رؤها رؤى العين ، وعايشوا آثار جرائمها الحيّة ، ومشاهدها الفاجعة ، نزيف دم ، وقتل ، وإرهاب ، وترويع ، فأولئك الذين بقوا في دوائر المتعاطفين مع الجماعة ، بعد كل هذه المشاهد الدامية في أنحاء مصر ، ما كان لهم أن يبقوا في مواقفهم الفكرية أو العاطفية ، إذا لم تكن ” عقيدة الإخوان ” قد أصبحت موصولة بقلوبهم قبل عقولهم ، وأي كلام غير ذلك ، أيا كان قائله ، هو محض ضلال وتضليل .
قد أتفهّم كثيرا أن تكون هناك دوائر واسعة من هؤلاء المتعاطفين مع الجماعة ، عندما كانت الجماعة تتدثّر زورا بأوراق خطاب ، ملوّن بالديموقراطية والمشاركة والعدالة ، أما عندما أصبحت أوراق الخطاب ذاته تقطر دما مصريا ذكيّا ، فلا سبيل إلى الحديث عن تعاطف مخدوع ، بفعل خطاب مخادع ، دون أن يرى رصاصاته رؤى العين ، وهي تدّق كالمسامير في أجساد المصريين .
ماذا أريد أن أقول :
أريد أن أقول – أولا –
أن كافة الانقلابات والتحولات السياسية والفكرية الكبرى تبدأ على هذا النحو ، بناء رصيف صغير ، يشكّل مقدمة لتحوّل كبير ، بعد أن يتم توسيعه باطراد .
وفي هذه الحالة يبدأ التحوّل ببناء رصيف صغير للحوار ، تحت اسم المتعاطفين ، ثم يتم توسيعه لتجلس عليه القواعد الدنيا من التنظيم ، التي سيقال أنها كانت تنقذ ما لا قبل لها برفضه ، ثم يتمدد الرصيف تلقائيا لتتمدد فوقه المستويات الوسطى ، التي كانت مجرد جسر لعبور التعليمات من أعلى إلى أدنى ، وهكذا وهكذا ، قبل أن نجد أن الجماعة كاملة في مواجهتنا على الرصيف المقابل ، ليبدأ الصدام ثم الانفجار الكبير ، ولتجد الجماعة نفسها جاهزة للصعود إلى حيث تطمع ، ويطمع الغرب ، بفعل عوامل متشابكة ليس هذا مقام التوقف عندها .
وأريد أن أقول – ثانيا –
أن المتعاطفين حتى في حدود كلمة التعاطف هم أكثر خطرا وظيفيّا من المنخرطين ، ذلك أنهم البيئة الحاضنة لهم ، والمشاعل الخفيّة التي تضئ لهم الطريق ،والمحامي العام الذي يقدم للعامة الدفوع عنهم ، والأيدي التي تختفي في الظل ،وتناولهم الرصاص .
إن المتعاطفين مع النازي ، هم الذين فتحوا أبواب بلادهم لكي يدوسها بحذائه العسكري الثقيل ، وهم الذين أمدوه بالمعلومات ، وهم الذين أشاعوا في مجتمعاتهم أنها ساقطة استراتيجيا ، وأنها عاجزة عن الصمود والمقاومة ، وأن استسلامها غير المشروط هو ضمان بقائها ، وتجنب خرابها ، والمتعاطفون مع الاستعمار قديما وحديثا هم الذين صنعوا من ظهورهم جسورا عبرت عليها الظاهرة الاستعمارية ، ثم عبرت عليها الإمبريالية التي تدنت إلى طور قديم ، وفتحت بالنار صدور العراق وسوريا وليبيا واليمن .
وأريد أن اقول – ثالثا –
أن هذه المعادلة الفجّة ، التي تحول الاستثمار الأجنبي إلى سلاح ضغط سياسي واقتصادي ضد مصر ، أصبحت مكشوفة وعارية ، غير أن الملفت في هذا الحيّز ، أن توظيفها قد تحول من أداة لتجريف قاعدة الاعتماد على الذات ، وتقزيم دور الدولة في التخطيط المركزي والإنتاج ، إلى أداة للإكراه السياسي والفكري والعقائدي ، فعندما يصبح التلويح بأنه عدم الاستجابة إلى المصالحة مع الجماعة ومريديها ، إنما يعني الهلاك ، لأن ما يترتب عليه هو هروب الاستثمار ، فهذا يعني أن ما يبث في إطار الدعوة ، ليس فكرا ، وليس رأيا ، وإنما تهديد سافر لإرادة مصر ، باسم من يحركون هذه الأموال من الخارج ، قبل أن يملكونها في الداخل .
وللأسف الشديد ، فإن هذه المعادلة الفجّة المكررة لن تتوقف عن تقديم نفسها بصيغ متعددة ومتجددة ، رغم وحدة مضمونها ، فإما أن يتم دمج الإرهاب في جسد الدولة المصرية ، وإما أن يهرب الاستثمار ، وإما أن تعيد الدولة المصرية تعويم نفسها كشركة خاسرة ، تتخلص من أصولها ، وإما أن يهرب الاستثمار ، وإما أن يغير الجيش المصري العظيم عقيدته القتالية ،وإما أن يهرب الاستثمار ، وهكذا يتحول سلاح الاستثمار في ذاته إلى الفزاعة الكبرى ، التي تصوغ رؤى الحكومات سياسيا واقتصاديا وفكريا ، بل وأن تصوغ رؤى الدول استراتيجيا .
وأريد أن أقول – رابعا –
أن نوايا أمريكا والغرب عموما تجاه مصر لم تتغير استراتيجيا ، على الرغم من قبول الحكومات المصرية المتعاقبة ، بصيّغ مختلفة ، للتكيف مع الضغوط الواقعة عليها ، خاصة في البعدين الاقتصادي والاجتماعي ، في ضوء بيئة استراتيجية لحق ما لحق بها ، من تفكك ومتغيرات عاصفة ، إلا أن سعي مصر المحموم ، وجهدها الاستراتيجي على جبهة المجهود الرئيسي ، لبناء قوة نيران تكافئ حجم التهديدات البازغة ، التي تستهدف الكيان الوطني ، لا هي في محل رضا ، ولا هي في محل قبول ، لذلك فإن مصر ، التي ما تزال رغم كل المتغيرات ، وأشكال التكيّف ، موصولة بقواعد أمنها القومي ، ما تزال تمثل خطرا ، كما أن تحولاتها في مرحلة تالية يمكن أن يمثل تهديدا ، لنجاح واستقرار قلب الاستراتيجية الغربية المضادة للإقليم .
لابد إذن من بناء رصيف صغير باسم المصالحة ، كي يتم توسيعه باستمرار ، لكي تبقى الجماعة ، موضوعيا جزء من المعادلات السياسية والاقتصادية والفكرية العامة في مصر ، ذلك أن بقاء الإخوان ، أو عودة نفوذهم المعنوي ، قبل المادي ، هو الضمانة الوحيدة لكي يبقى الاستقرار المصري معلّقا ، ولكي تبقى المعادلات الاقتصادية والاجتماعية والفكرية المختلة ، دون تغيير ، ولكي يبقى هذا السقف المصبوغ بلون ديني زائف ، الذي يمنح الفقر والاستغلال والتبعية ، مشروعية انتسابها إلى الإسلام ، وهو منها براء .
وإذا تصوّر أحد أن الغرب ، قد منح ثقته لرئيس مصري بعد جمال عبد الناصر ، الذي كان مناوئا له ، فهو واهم ، بما في ذلك أنور السادات وحسني مبارك ، وإذا تصوّر أحد ، أن الشعب المصري بمكوناته الحضارية والتاريخية ، أو أن الجيش المصري بعقيدته الوطنية الراسخة ، يمكن لأي منها أن يكون في دوائر ثقة الغرب ، فهو أكثر من واهم ، وأقل من عاقل .
وأريد أن أقول – خامسا –
أن الناس ملّت هذا الإعلام ، وانقطع رجاؤها فيه ، وانصرفت إلى حيث انصرفت ، إما إلى خارج الحدود ، أو إلى حلقاتها الضيقة ، أو وحدتها الفارغة .
لقد فقد هذا الإعلام سطوره ودوره ، بعد أن فقد رسالته ، وبعد أن تسلط عليه نفر من الذين يخلطون السياسة بالمال ، وإن كانوا في الحقيقة يخلطون المال بالسياسة ، تربّحا رخيصا ، هؤلاء الذين ولدوا في حضّانات أجنبية ، وكبروا في حضّانات أجنبية ، وتقدموا الصفوف بهذه الحضّانات ، وهم ما يزالون يتحدثون من داخل هذه الحضّانات ، هؤلاء الذين يحتفون بالجواسيس على الهواء ، ويرجمون أبطال التاريخ الوطني بأحجار ملوثة ، هؤلاء الذين يسوّقون لحظات مفعمة بالبطولة والفداء ، كأنها لحظات مفعمة بالانكسار والاستسلام .
أخرجونا من هذه البركة الآسنة .!!