الدكتور احمد عز الدين | كاتب وباحث مصري في الشؤون الإستراتيجية
لم أكن أرغب في أن أستدير بعيدا عن اهتمامات أكثر أولوية إلى مواقف ” رجال المال ” في مصر ، الذين سعوا دائما وأبدا إلى محاولة توظيف قوة العمل ، أداة ضغط وابتزاز للدولة المصرية ، وقد شكلوا على امتداد أكثر من ربع قرن ، أقوى جماعات الضغط المنظمة ،وأكثرها تأثيرا في قرارات الحكومات المصرية المتعاقبة ، مستندين إلى روابطهم الأجنبية ، التي منحتهم قوة دفع للاختراق والحماية .
لكن أمران أكملا في داخلي دائرة من الاستفزاز ، دفعتني إلى هذه الاستدارة .
الأول : أولئك الذين صعدوا فوق منابر من ورق وفي الفضاء وانتدبوا أنفسهم للدفاع عن مواقف لا تحتمل دفاعا ، وعن إدعاءات مبتذلة ، وتغطيات جارحة ، وقد كان آخرهم صادما ، فقد أدخل المسألة كلها في باب التبرع ، الذي لا يقبل فرضا بحكم الدستور ، وكأن القضية ليست قضية قوة عمل وأجور وبطالة ، واستبداد لرأس المال ، الذي من حق الدولة أن تقيّده ، أو أن تقيّد تصرفاته لصالح المجتمع ، في وقت أزمة وشدة وهجوم منظم ، يستدعي بذاته الفوضى .
الثاني : استدعاء بعض من صناع الأزمة ، ومن الذين دفعوا مصر واقتصادها ، وطبقاتها الاجتماعية ، إلى منحدر صعب ، ليقدموا توصيفا للأزمة ولمستقبلها ، ولسبل التغلب عليها .
إن أولئك الذين كانت صيحاتهم تملأ الآفاق ، بتعويم الدولة كأنها شركة خاسرة ، وببيع الأصول ، والاندماج في الاقتصاد العلمي في طور تأزمه وتصدعه ، من موقع ضعف ، ليس من حقهم الآن أن يلقوا على الحكومات وعلى الناس دروسا في سبل النجاة ، والخروج من مضاعفاتها ، ومن طورها المفترس ، فالإجابات القديمة لم تعد صالحة للتعامل مع الأسئلة المستجدة ، لأن ” كورونا ” ليس الأزمة ، وإنما هو عنصر في مجراها ، كاشف لأعماقها .
ما أريد أن أقوله ، في هذا الصدد ، مُركّزَا على النحو التالي :
أولا : أنه في ضوء حقائق لا يأتيها الباطل ، فإن واحدا من رجال المال في مصر ، أيا كانت صفته ، أو إطار أعماله ، لم يكن يمتلك مالا حتى عام 1990 يصل إلى رقم مليون جنيه مصري لا غير ، فلم يكن واحدا من هؤلاء جميعا ، قد تمكن من أن يراكم مليونه الأول ، وبالمفارقة التي تعطيك قناعة عن طبيعة النمو وعوامله وأسبابه ، فإن أحد تقارير الأمن القومي في عام 2001 ، أي بعد عقد واحد من الزمن ، تؤكد أن إجمالي ما تم نزحه من أموال إلى خارج مصر يساوي 60 مليار جنيه .
ثانيا : في العقد التالي (2000-2010 ) كان الإيقاع مختلفا ، فقد تسارعت على نحو شيطاني عملية بناء الطبقة الجديدة من رجال المال في مصر ، ودون دخول في تفاصيل ليس هذا أوانها ، فقد كان المطلوب غربيا هو بناء طبقة جديدة محدودة عند القمة ، لا تتجاوز 5% من عدد السكان ، مشبعة برأس المال الاجتماعي ، تعيد بدورها بناء الهيكل الاجتماعي في مصر ، فتسقط شرائح الطبقة المتوسطة ، إلى صفوف الأجراء والطبقة الدنيا ، وتقزّم دور الدولة ، بينما يتم تحويلها إلى بنية مكروهة في حد ذاتها .
ولم تكن فلسفة إسقاط الطبقة المتوسطة المصرية ، بعيدا في توجهاته الأساسية عن هدف تقزيم الدولة الوطنية ، وتجريدها من أسباب بقائها على جانب ، وعن زيادة تأثير العوامل الخارجية في حقل السياسة العامة للدولة على جانب آخر ، وعن تفكيك المجتمع من الداخل ، والسماح للسلفية أيا كانت صورها وأشكالها بالاستقواء على المجتمع ، فنحن نتحدث عن طبقة تمثل منجم العقلانية والرشاد في المجتمع ، وهي الوعاء التاريخي لكل الحركات السياسية ، والقيادات الفكرية ، والرموز الثقافية والإبداعية ، بما في ذلك أولئك الذين لا يستطيعون أن ينفوا خروجهم من الوعاء ذاته قبل خروجهم عليه .
ثالثا : لقد كان اتجاه الحراك الاجتماعي ، وتكوين الطبقة الجديدة على هذا النحو ، متناقضا تماما مع التوجه العام لهذا الحراك ، على امتداد قرنين من الزمن ، فعلى امتداد القرنين الأخيرين ، غلب على الحراك الاجتماعي التوجه من أسفل إلى أعلى ، فقد ولدت في البداية شرائح الطبقة العليا ، ثم ولدت شرائح الطبقة المتوسطة ونمت وانتعشت ، غير أنه في هذه المرة أخذ الحراك اتجاهين متضادين :
حراك من أسفل إلى أعلى ، كوّن طبقة جديدة مشبعة يرأس المال ، يقدر حجمها بنحو 5% من المجتمع ، تستحوذ في الحد الأدنى على نصف رأس المال الاجتماعي ، وهي طبقة في الوقت نفسه ، اختلفت أصولها عن تلك الطبقة العليا القديمة ، التي أخذت في التكوين منذ بواكير القرن التاسع عشر ، ونشأت من أحسن الفئات حالا في المجتمع .
وحراك اجتماعي آخر ، أشد عنفا ، هبط بشرائح اجتماعية كاملة ، من أعلى إلى أسفل ، وكما احتكرت الطبقة المتوسطة في ظل صعودها لنفسها ، أكثر الأرباح والمغانم ، لحقت بها في ظل هبوطها أكثر الضربات والخسائر .
إن هناك مؤشرات واضحة على سقوط أكثر من ثلثي شرائح هذه الطبقة ، إلى أوضاع أقرب إلى الطبقة الدنيا من العمال والفلاحين ، وهو ما يعزز القناعة بأن 80% على الأقل من إجمالي المجتمع ، قد طالته أكثر مظاهر هذه الأزمة ، ومضاعفاتها ، بكل انعكاسات ذلك على الإنتاج الاجتماعي والإبداع ومنظومات القيم ، قبل المشاركة السياسية ، غير أن أكثر ما يدهشك في هذا التوجه ، هو ذلك التصور الذي ظل يرى إمكانية بناء عمارة اقتصادية راسخة ، بواسطة بناء الأدوار العليا أولا ، أو بناء الأدوار العليا فقط ، مع أنه من البديهي أن ذلك ليس صحيحا وليس ممكنا ، لا في علوم الاقتصاد ، ولا في علوم الهندسة .
رابعا : جول السؤال المعلق عن الطبيعة الخاصة لهذه الطبعة المستحدثة ، من رجال المال ، لماذا يبدون وكأنهم يتمتعون بخصائص مختلفة عن شرائح رأسمالية أخرى ، ظهر ولاؤها كاملا لمجتمعاتها في الغرب ؟ والإجابة واضحة ، فقد كان السعي إلى ولادة شرائح رأسمالية رشيدة ، يتطلب أن يكون نموها طبيعيا ، وليس بعوامل الطفرة المصطنعة ، وأن تكون جذورها بالتالي عميقة في التربة الوطنية ، لتدافع عن خصوصيتها الوطنية ، وعن الاستقلال بسوقها الوطني ، لا إلى أن تنتهي كنموات محلية متشابكة الجذور مع مصالح الخارج ، غير أن ذلك كان يحتاج إلى عشرات السنين ، ويرتكز إلى عناصر إنتاجية حقيقية في البيئة الوطنية ، لكن هذه الطبعة المستحدثة من رجال المال ، تم تنميتها في حضانات تشبه الصوبات الزراعية ، التي تنتج بعض المحاصيل في غير زمانها ومكانها ، اعتمادا على المنشطات والهرمونات والمبيدات ، فخرجت متضخمة ولكنها ضعيفة ، متورمة ولكنها أقل نضجا ، لامعة ولكنها أحط مرتبة وأدنى منفعة .
إن هذا ما يفسر هشاشتها ، وأنانيتها ، وتمركزها على ذاتها ، فهي لم تنشأ اعتمادا على تراكمها الذاتي ، وإنما اعتمادا على ما اقتطعته لنفسها من تراكم أصول الدولة والمجتمع ، وبأدوات لا تخرج في مجملها عن الفساد والاحتكار والتمييز ، وقد يكفي للدلالة فقط ، أن واحدا من أكثر الأصوات علوا في الاعتراض على ما تتطلبه ظروف الدولة في وضعها الراهن ، قد وُضع أحد فنادق القاهرة الكبرى هبة بين يديه نظير مبلغ 7 مليون جنيه فقط لا غير ، لكنه حصُل بالمقابل بعد أيام معدودة على قرض بمئات الملايين من أحد بنوك الدولة ، على ذمة ائتمان بقيمة الفندق ذاته ، وهكذا فنحن أمام نموات مالية ، ذات طبيعة خاصة ، أكثر شراهة للربح ، وأكثر انحيازا للاستهلاك ، وأضعف ارتباطا بسوقها الوطني ، إن الركود بالنسبة لها ليس إلا فرصة لمضاعفة الاحتكار ، والأزمة بالنسبة لها ليست إلا مغنما لتمركز الثروة ، والسوق بالنسبة لها ليس إلا قطعة من الخبز عليها أن تسرع بالتهامها .
خامسا : لقد تحدث أحد أصحاب القنوات التليفزيونية، وهو يصفها بأنها ( قناتي ) وكأنه يمتلك جزيرة مستقلة في المحيط ، مغطيا عمامة الإخواني بقبعة المثقف الوطني ، تحدث واعظا عن المسئولية الاجتماعية لرأس المال ، والحقيقة أنه لا شئ في الواقع يسمى المسئولية الاجتماعية لرأس المال ، وإنما هناك مسئولية اجتماعية للرأسمالي ، فرأس المال له منظومة قيم وأخلاق ذاتية مستقلة ، وهي التراكم والتوسع والربح ، وهي منظومة قد تتوافق أو تتناقض ، مع منظومة قيم وأخلاق الرأسمالي نفسه ، فالعلاقة بين رأس المال والرأسمالي ، هي علاقة بين منظومتي قيم قد تتوافقان أو تتصارعان ، وقد التقط الإبداع الفني هذه العلاقة الصراعية ، بين الرأس مال والرأسمالي مبكرا ، عن التقاطها من جانب علوم الفلسفة ، أو الاقتصاد ، فقد تحولت في كثير من الأعمال الفنية ، إلى منطقة صراع ، أو منطق صراع في الأصح ، سواء في المسرح أو الرواية ، كما في أعمال ” برنارد شو ” وفي روايات ” همنجواي ” وفي مسرحيات ” ابيسن ” حيث يحتدم الصراع بين رأس المال الذي هو بلا مشاعر ولا ضمير ، خاصة عندما يدخل في ماكينة السوق مع صاحبه ، تكوينا ومشاعرا ، وفي هذه الأعمال الفنية تبدو حرية رأس المال ، هي حرية الهدم لا البناء ، وحرية التدمير لا الترميم ، فراس المال المجرد لا مسئولية له ، ولا عقيدة ولا انتماء ، وإنما تتلخص مهمته في تحقيق قانونه الذاتي ، وهو التركيز والتراكم والربح .
سادسا : إن ما أكتبه الآن ليس جديدا ، فالحقيقة أنه لا يمثل إلا بضع كلمات من آلاف الصفحات التي كتبتها في نفس المسار ، على امتداد هذين العقدين ، لكن القديم قد يكون فيه ما يستحق أن يستعاد .
لقد تلقيت في أوج عشرات المقالات والدراسات ، ضد سياسة الدكتور عاطف عبيد وحكومته ، دعوة للسحور من أحد وزرائه بمنزله ، وقد كان صديقا عزيزا ، وأكاديميا مرموقا ، وقد امتد الحوار قبل السحور وبعده لساعات ، حول سياسة رئيس الوزراء وما أكتبه من نقد ، وعن تقدير الدكتور عاطف عبيد مع ذلك ودعوته للقاء أناقش معه في مكتبه ما آراه ، ويشرح لي ما قد يستغلق علي من أسباب ، ثم كان الحديث من الجانب الآخر حانيا بأنني قلت ما يكفي ، وتحملت فوق الطاقة ، لكنني قلت للوزير الصديق في نهاية اللقاء ، وهو مازال يتمتع بالصحة والعافية ، أن رئيس الوزراء فاسد ، وأنه يدير منظومة من الفساد ، ولذلك لست مستعدا ، أيا كان الثمن لمثل هذا اللقاء .
لقد كانت البيروقراطية مستأسدة ، ولكنها لم تكن في أوج سطوتها قادرة على أن تغلق نوافذ وأبواب الدولة أمام من يمتلكون رؤية ، ترى من بُعد آخر ، ما لا تراه حكومتها.
سابعا : نستطيع الآن ، أن نحدد بدقة ، من أين تأتي محاولات تأليب الرأي العام على المشروعات ، التي تتقدم القوات المسلحة لتملأ أطرها القديمة والمستجدة ، مستهدفة إيجاد قدر من التوازن في هذا السوق المحكوم بمصالح رأس المال .
عندما أنشأ الجيش مصنعا لإنتاج الأسمنت يدخل معظم إنتاجه في صلب احتياجاته ، تعالت صرخاتهم في فزع ، وعندما تأسست شركة مسئولة عن مشتروات ما يدخل في صلب صحة المصريين ، كانت الصرخات أعلى ، والفزع أكبر ، وقد ظل الأمر نفسه يتكرر بإلحاح ، كلما امتدت يد الدولة لتنتج أو لتستورد لنفسها بنفسها ، ما يصحح أي قدر من خلل التوازن في بنية السوق المفتوح .
والحقيقة أنه رغم كل الضوابط ، ورغم كل المحاذير ، فإن هذه الطبعة من رجال المال ، لم تضر على امتداد السنوات الأخيرة ، على غرار ما لحق بالقواعد الاجتماعية ، من الطبقة المتوسطة ، والطبقات الدنيا ، التي حملت صخور المعاناة على كواهلها ، ويمكن الاكتفاء بدليل واحد ، هو تقرير مؤسسة ( نايت فرانك ) للثروة العالمية 2020 ، فوفقا للتقرير فإن أعداد المصريين الذين يمتلكون أكثر من مليون دولار كانت في عام 2014 نحو 44 ألف شخص ، لكنها زادت في عام 2019 إلى 57.6 ألف شخص ، بينما زادت أعداد المصريين الذين يمتلكون أكثر من 30 مليون دولار من 740 شخص عام 2014 إلى 764 شخصا في عام 2019 ، لماذا ؟ لأن الأموال في كل الأحوال قد ذهبت في اتجاه واحد من أسفل إلى أعلى ، وليس العكس ، وفي دولة تفيد تقاريرها الرسمية أن الجالسين تحت خط الفقر قد أصبحوا يشكلون 32% من السكان ، تفيد تقارير أحد المؤسسات الدولية في الوقت نفسه أن أحد رجال المال فيها ، قد صعد إلى المرتبة الأولى بين أصحاب المليارات على مستوى الإقليم بثروة تقدر ب80 مليار جنيه .
ثامنا : إن الدولة تتصرف في مواجهة ” كورونا ” على نحو ينم عن إدراك صحيح وعميق بالخطر ، ولا أحد يستطيع أن يجحد ذلك ، لكننا أمام أزمة ممتدة ، وما سينتج عنها ، أكثر خطورة من سياقها ذاته ، لكن عقلية الربح والكسب السريع لم تتغير ، وهي لم تعد صالحة في عالم تتفشى فيه جرثومة التفكك ، ويتصدع فيه نموذج الليبرالية الجديدة ، وتشتد الحاجة فيه إلى صيغ أكثر تماسكا للاعتماد على الذات ، إن النجاة الفردية ليست قاربا صالحا للإبحار ، في فيضان الهلاك الجماعي ، ولذلك فمن المؤكد أن الإجابات القديمة على الأسئلة الجديدة ، في بيئة متغيرة ، لم تعد شافية ، ولا صالحة ، ولا منتجة ، إن العالم بصدد صياغة إجابات جديدة ، حتى على الأسئلة القديمة ذاتها ، ومن المؤكد أيضا ، أن الدولة المركزية القوية العادلة وحدها هي القادرة على النجاة ، من العواصف القائمة ، ومن الزلازل القادمة ، ذلك أنه بغض النظر عن أي اعتبار آخر ، فإن الهدف الاستراتيجي من وراء كافة صور تلك العواصف والزلازل ، ليس إلا إنتاج الفوضى .