الدكتور احمد الدرزي | كاتب وباحث سوري
أثارت زيارة الرئيس التركي رجب إردوغان للعاصمة السعودية الرياض، مجموعة من التساؤلات، بعد لقائه ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، صاحب القرار الأوحد في المملكة، وخصوصاً أن هذه الزيارة تأتي بعد زيارته أبو ظبي، وفي انتظار اللقاء مع رئيس وزراء الكيان الإسرائيلي نفتالي بينيت، تعقيباً على زيارة رئيسه إسحاق هرتسوغ العائلية الحميمة لأنقرة. فأين موقع سوريا مما يجري، وما مدى مخاطر استمرار السياسات التي يتم العمل عليها؟
تعيش تركيا حالة حرجة، محلياً وإقليمياً، وخصوصاً بالنسبة إلى سلطة الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، الذي يعاني استفحال الأزمة الاقتصادية الداخلية، نتيجةً للسياسات العائلية في إدارة الاقتصاد التركي من جهة، والضغوط الاقتصادية للبنك الدولي والولايات المتحدة على سعر صرف الليرة التركية، وما نتج من ذلك من تدهور كبير لمستوى معيشة الأتراك، الأمر الذي يدفعه إلى إعادة الحسابات، خشية خسارة الانتخابات الرئاسية المقبلة عام 2023، والتي قد تدفع خصومه إلى محاكمته واستعادة كل الثروات التي راكمها خلال فترة حكمه.
وإردوغان يعيش قلقاً من احتمال تغيير مسارات المنطقة، وخصوصاً ما يتعلق بالعودة إلى الاتفاق النووي بين إيران والولايات المتحدة، والذي سيعني، من الناحية الفعلية، الاعتراف باعتبار إيران صاحبة الدور الإقليمي الأكبر، وما سيترتب نتيجة ذلك على مجمل ملفات المنطقة، وخصوصاً ما يتعلق بسوريا، التي تُعَدّ مفتاح النظام الإقليمي الجديد. وهو ما يعني تحطيم الطموحات الإقليمية لإردوغان، واضطراره إلى التعاطي مع بنية جديدة قد تجبره على الانسحاب من المناطق التي احتلها في الشمال السوري، وهو ما سيعقّد أزماته الداخلية مع خصومه، ويجعله عُرضة للمحاسبة الشعبية، بعد أكثر من أحد عشر عاماً من الحرب التي تورط فيها في سوريا، على نحو مباشر وغير مباشر.
ويزيد في حدة قلق إردوغان عاملان أساسيان، الأول هو ميل بعض الدول العربية إلى إعادة سوريا إلى النظام العربي، وهو ما سيشكل في حال نجاحه، اصطفافات عربية مع سوريا في استعادة سيطرتها على كامل أراضيها المحتلة من جانب تركيا. والعامل الثاني المستجد هو الخشية من نتائج الحرب في أوكرانيا، وانتقام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منه، وخصوصاً بعد تورطه في الحرب، ومسؤولية طائرات بيرقدار المسيّرة، التي سلّمها إلى أوكرانيا، عن نصف قتلى الجنود الروس، بالإضافة إلى التشويش الإلكتروني على درة تاج البحرية الروسية، الطرّاد “موسكاڤا”، الأمر الذي أدّى إلى تسهيل تدميره وإغراقه.
عداوات إردوغان الشخصية الشديدة مع ولي العهد الإماراتي، محمد بن زايد، الذي وصفه بأقذع الأوصاف من جهة، ومع ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، وما تسبب له من إحراجات كبيرة عبر الكشف عن مسؤولية قتل الصحافي جمال خاشقجي من جهة ثانية، ومع قيادات “تل أبيب”، بسبب الخلافات على الحدود البحرية، وتعطيله لفكرة مرور أنابيب الغاز من الساحل الفلسطيني المحتل من جهة ثالثة، بعد توقيع أنقرة على اتفاقية الحدود البحرية، مع حكومة الوفاق الوفاق الوطني في ليبيا، ممثلةً برئيسها فايز السراج عام 2019، لم تمنعه من استغلال قلق حلف الخائفين (“إسرائيل” والسعودية والإمارات)، واستطاع أن يكسر الحواجز الشخصية، في سبيل تحقيق حد الأمان الأدنى له، بعدم الانسحاب من الشمال السوري.
من الواضح أن سياسات الدول الأربع تجاه سوريا متباينة الأهداف، فتركيا عينها على ضم الشمال السوري خلال عقد من الزمان، وتراهن بذلك على تغيُّر مزاج السوريين في المناطق المحتلة، وتقبُّلهم للأمر المفروض، بفعل الخدمات المقدمة إليهم، بما لا يمكن المقارنة مع الوضع في مناطق سيطرة دمشق، التي وصلت فيها نسبة الفقر إلى حدود 95 %، وغياب الخدمات الأساسية شبه الكامل (بمعزل عن الأسباب، وفي مقدمتها الحرب والحصار وتجفيف الموارد الداخلية والخارجية، وسوء الإدارة)، بينما تسعى “تل أبيب” للإبقاء على الوضع الراهن في سوريا، وإخراج إيران وحزب الله من سوريا، ومنع التواصل البري بين العراق وسوريا، بينما ترغب الرياض في استعادة نفوذها الإقليمي في سوريا ولبنان، بالتوافق مع الكيان الإسرائيلي، وعينها على اليمن، الذي عجزت عن إخضاعه بالحرب، الأمر الذي يجعلها تربط بين ملفات سوريا والعراق واليمن، بعضها ببعض، لمواجهة الدور الإيراني المتصاعد من أفغانستان إلى شرقي المتوسط والبحر الأحمر. وتشترك معها أبو ظبي في الأهداف والهواجس نفسها، مع المحافظة على وضع التنافس بين الطرفين على أولوية كل منهما، في تحقيق المكاسب.
على الرغم من الانحسار الكبير لمساحة سوريا الطبيعية، واستمرار عملية تمزيقها حتى الآن، فإن القيمة الجيوسياسية لما تبقى منها، ما زالت صاحبة دور أساسي في تحديد بنية النظام الإقليمي، وحجم الأدوار لكل الدول التي تحمل مشاريع متناقضة فيما بينها، تحت سقف النظام الدولي الجديد قيد التشكل، وهي قادرة على مواجهة التهديدات المستجدة بتطويقها، ومنع الانفراجات السياسية والاقتصادية، إذا ما غيرت السياسات الداخلية من جهةً، وتكاملت مع حلفائها الأقوياء، الذين يُظهرون يوماً بعد يوم تقدماً على مستوى القوة والدور.