الدكتور احمد الدرزي | كاتب وباحث سوري
ألقت الحرب الكارثية الطويلة على سوريا بظلالها على شريحة واسعة من السوريين. وبقدر ما أحدثته من انقسامات عميقة في بنية النسيج الاجتماعي السوري بشأن كل شيء، بدءاً بالاختلاف بشأن المستقبل السياسي، وانتهاءً بمسألة الهوية الوطنية السورية، فإنها أحدثت انقساماً صغيراً، ما زال محدوداً حتى الآن، في الرؤية تجاه فلسطين وموقعها بالنسبة إلى السوريين.
عقدٌ من الحرب، في نتائجه على المجتمع السوري من ضحايا ومعوَّقين وانزياحات ديمغرافية داخلية وخارجية ودمار عمراني واسع، دفع بعض الأصوات إلى التكلُّم بصوت خافت، والقول إن “إسرائيل” هي الحل إذا تمّ الاعتراف بحقها في الوجود، أو كردة فعل على تورُّط بعض حركات المقاومة الفلسطينية. وبرز الأمر أكثر عند كثير من المعارضين، الذين توهَّموا أن المدخل لاستلام السلطة لا يمكن أن يتمّ إلاّ من بوابة “تل أبيب”، التي تستطيع التأثير في القرار الأميركي بشأن دعمهم.
على الرغم من مضي أكثر من مئة عام على تجزئة المنطقة، غير القابلة للتقسيم، فإنّ هذا الزمن، الطويل نسبياً، لا يمكنه أن يغيّر واقعها على مدى أكثر من خمسة آلاف عام، وخصوصاً فيما يتعلق ببلاد الشام والرافدين؛ المنطقتين اللَّتين تنتميان إلى إطار جغرافي تفاعلي مشترك لكل الشعوب التي مرت فيهما، وتُعَدُّ فلسطين بوابةَ هذا الإطار الجغرافي، والتي يحدّدها الجغرافي الإدريسي باعتبارها الحد الغربي الجنوبي لبلاد الشام، وتنتهي عند رفح بعد غزة.
وأغلبية القوى والإمبراطوريات، التي مرَّت في بلاد الشام، كانت تتعاطى مع فلسطين باعتبارها الامتداد الطبيعي لبلاد الشام، والبوابة الرئيسة للوصول إلى وادي النيل وشمالي أفريقيا، بما في ذلك القوى الغربية المهيمنة والتي قسّمت المنطقة. وهذا ما يمكن أن نلاحظه في وثائق الخارجية الفرنسية، عبر اعتراض غرفة التجارة في كل من ليون ومرسيليا على مضمون اتفاقية سايكس – بيكو، وطالبت كلتاهما بتعديلها بعد الحرب، معتبرةً أن الحق التاريخي لفرنسا يشمل سوريا “الطبيعية” كلها مع كيليكيا وفلسطين.
حتى أهل فلسطين لم يتعاطَوا مع واقعهم الجغرافي إلا كونهم جُزءاً أساسياً من الإطار الطبيعي الأكبر، وحالهم كحال حلب وحمص وحماه وسائر المناطق. ولَم يتلكَأُوا لحظةً بعد أن سنحت الفرصة في تأسيس الدولة السورية. ولم يكن توجُّه وفد فلسطين، المكوَّن من سبعة عشر نائباً، إلى دمشق من أجل حضور المؤتمر السوري العام، في شهر حزيران/يونيو 1918، إلاّ تعبيراً عن الانتماء الطبيعي إلى بلاد الشام، التي تمتد من طوروس شمالاً إلى رفح جنوباً، إذ انعقد المؤتمر بحضور تسعين نائباً، يمثّلون أغلبية المناطق السورية في لبنان والأردن وفلسطين والشام.
انتهى المؤتمر في الـ8 من آذار/مارس من عام 1920 بتلاوة ممثّل نابلس، محمد عزة دَروَزة، بيانَه بالدعوة إلى الوحدة العربية، وخصوصاً بين سوريا “الطبيعية” والعراق. وأقرَّ المؤتمر بأن “ليس ثمة انفصال للجزء الجنوبي من سوريا، والمعروف باسم فلسطين، ولا للمنطقة الساحلية الغربية، والتي تشمل لبنان، عن البلاد السورية”.
في المقابل، فإن أغلبية السوريين وقواهم السياسية تعاملت مع فلسطين باعتبارها جزءاً أساسياً من سوريا “الطبيعية”، وأنها بوابتهم الأهم نحو وادي النيل وشمالي أفريقيا، وأن إخراجها من المعادلة الجغرافية السورية يُفقدها الدور الإقليمي الأهم الذي يحميها.
وعلى الرَّغم من الاختراق الغربي والمؤتمر اليهودي العالمي لكثير من النخب السياسية والاقتصادية والإعلامية السورية، فإن المزاج العام كان واضحاً، في خطوطه الحمر، تجاه قضيته الفلسطينية، وعَدَّها مسألة وجودية لا تتوقف عند حدود ما يحاك للسوريين، فاندفع الشيخ عز الدين القسام من جبلة السورية الساحلية إلى فلسطين، ليقود ثورتها عام 1936 ويستشهد فيها. وكانت الظاهرة في أكثر تجلّياتها في حرب النكبة عام 1948، مع توجُّه المتطوعين السوريين في جيش الإنقاذ من كل المناطق السورية.
لم تتعاطَ الدولة السورية مع كارثة النكبة إلاّ من المنطلق الوطني ضمناً، الذي يعتبر فلسطين جزءاً من سوريا، على الرغم من الاعتراف الرسمي المفروض كنتيجة للحرب العالمية الثانية، فتعاملت مع مشكلة اللاجئين الذين اقتُلعوا من جذورهم كمواطنين سوريين في بلدهم من ناحية الحقوق، فساوت بينهم وبين سائر السوريين في كل الحقوق والواجبات، عدا منحهم الجنسية السورية الرسمية، منعاً لإسقاط حق العودة لهم إلى أرضهم، وحفاظاً على بقاء قضية اللاجئين كإحدى أوراق مواجهة الاحتلال والاقتلاع.
على الرغم من تغير الإدارات السياسية المتتابعة في دمشق، ما بعد النكبة، فإن موقف دمشق السياسي تجاه فلسطين لم يتغيّر بغضّ النظر عن الدوافع، وبقيت فلسطين أولوية وجودية في العقل السياسي السوري. وهذا ما دفع دمشق إلى تبني خيار المقاومة كأولوية، فجعلت من نفسها مركزاً أساسياً لها، وتعاملت مع معركة الاحتلال من منطلق الساحة السورية الواحدة، ورأت أن شعار استقلال القرار الفلسطيني يُعَدّ تهديداً للاستراتيجية البعيدة المدى، والتي تستند إلى أن سوريا الحالية ليست سوى الجزء الأم بالنسبة إلى كل المناطق التي سُلِخت منها، والأولوية فيها للتهديدات الوجودية للمشروع الصهيوني، الذي لن يتوقف عن التمدد والسيطرة والهيمنة وتدمير المحيط الإقليمي له، من منطلقات عقائدية ووجودية. وهذا ما دفعها إلى احتضان حركات المقاومة الفلسطينية، وأمَّنت لها البيئة الآمنة للحركة داخلها، وساهمت، في صورة كبيرة، في دعمها بالمال والسلاح والتدريب، على الرغم من الاختلاف الأيديولوجي مع بعضها.
ولَم يتوقَّف الأمر بعد الحرب على سوريا، على الرغم من تورط بعض تيارات المقاومة فيها، وبقيت تعمل ضمن الإمكانات المتاحة على استمرار هذه المقاومة الفلسطينية، لإدراكها أن ما يجري في الأرض السورية لا ينفصل عن المشروع الصهيوني ومتطلبات استمراره، كوظيفة غربية ووجود ذاتي متكاملين.
على الرغم من تشوُّش الرؤية لدى بعض النخب السياسية والثقافية تجاه فلسطين وقضيتها، فإن واقع الجغرافيا التاريخية السورية يفرض أجندته على التوجه السوري العام، ولا يسمح بالتعاطي مع القضية الفلسطينية إلاّ من منطلق المحدِّدات الوجودية، ومن منطلق الاحتلال أيضاً. وإن السوريين محكومون باستمرار التعاطي المقاوم لأي محاولات تذهب بهم إلى قبول بقاء هذا الكيان، على الرغم من حاجتهم الماسّة إلى الخروج من الحرب عليهم، وفيما بينهم، وحاجتهم أيضاً إلى التغيير الجذري والعميق والهادئ، على نحو يَصُبّ في مصلحتهم جميعاً، وإنهاء كل الاحتلالات لقسم كبير من أراضيهم.