الدكتور احمد الدرزي | كاتب وباحث سوري
ما إن بدأت ملحمة “طوفان الأقصى” بساعاتها الأولى حتى غابت كل المشاهد المحتدة في كل بقع العالم، بما في ذلك سوريا التي شهدت قبل يومين من الملحمة أكبر مجزرة في الحرب السورية، ليدخل السوريون جميعاً مرحلة ترقب ما ستنتهي عليه الملحمة، وكيف ستنعكس على مسار المأساة السورية الأطول.
أثار الحدث الملحمي في بداياته الأولى الكثير من الارتباك في أوساط السوريين المنقسمين على أنفسهم تبعاً للاصطفافات الذاتية المتماهية مع الأقطاب الإقليمية والدولية التي تخوض صراعاتها في أكثر من بقعة إقليمية ودولية، والتي تعتبر جغرافيا بلادهم من أهم ساحات الصراع، وغالباً ما سيطرت الحسابات الخاصة لأطراف الانقسام السوري، والتي لا تنفصل عن الحسابات العامة للقوى الإقليمية والدولية التي اصطفت معها.
حصلت الملحمة في زمن يغلب عليه الاستعصاء، والجميع لا يرى أفقاً واضحاً للخروج من وضعية اللاحياة واللاموت، بعدما أُغلقت أبواب الانفراج والحلول أمامهم، لارتباط ذلك بالاستعصاء الإقليمي والعالمي، لعدم قدرة كل طرف من الأطراف على حسم خياراته الاستراتيجية، إضافة إلى التداخل العجيب بالعلاقات الإقليمية والدولية المتناقضة، عدا عن الدور الأميركي المستشرس القادر على تعطيل كل المسارات، رغم استمرار رحلة الانكفاء المستمرة.
قد تكون دمشق هي الأكثر ترقباً لنهاية الحرب، فهي على الرغم من عدم انفتاحها الكامل على حركة حماس، فإن ذلك لم يمنعها من أن تكون شريكاً بقدراتها، بما هي عليه من تآكل اقتصادي واجتماعي وسياسي، وأن تؤدي دوراً في الانتصار الملحمي، إن كان باعتبارها ممراً مهماً وأساسياً لوصول السلاح إلى لبنان وفلسطين أم بتقديم حرية الحركة للحركات المقاومة في مناطق المواجهة المباشرة مع جيش الكيان أم في المناطق الخلفية الداعمة لوجستياً، ما يجعلها تتعامل مع نتائج الحدث المرتقبة من منطلق الشريك بالانتصار، ما يرفع من مستوى التفاؤل بتحسين أوراقها، وخصوصاً ما يتعلق بعودة العلاقات العربية المجمدة معها، وأهم الدول هي السعودية والإمارات اللتان تراجعتا إلى الخلف بعد فترة إقبال.
وفي الطرف المقابل، هناك تجربة الإدارة الذاتية التي عملت منذ لحظة تأسيسها على تعميم تجربتها كنموذج فريد للحل السياسي، من دون النظر إلى اعتبار الولايات المتحدة الضامن الوحيد لاستمرارها، كما أنقذتها من قبل من براثن تنظيم “داعش”، عندما اجتاحت منطقة عين العرب/كوباني، وهي اليوم الضمانة الوحيدة لاستمرار التجربة، فأعداء التجربة الأتراك يتربصون بها من الشمال، والجيش السوري وحلفاؤه يتحينون الفرصة لعبور نهر الفرات والانقضاض على منطقة الجزيرة السورية لتحريرها من الأميركيين.
ما حصل في ملحمة “طوفان الأقصى” زلزل مستقبل الواقع السياسي الحديث العهد في الجزيرة السورية، وأربك القادة الكرد، فقد أحجموا عن التعليق على ما يجري في فلسطين إلى ما بعد حدوث المجزرة الإسرائيلية بحق المدنيين الفلسطينيين في مشفى “المعمدان”، والتي ذهب ضحيتها 500 شهيد مدني، لتظهر بيانات متباينة بإدانة المجزرة، وتركز على مفهوم الأمة الديمقراطية للحل السياسي بين “اليهود” والفلسطينيين، على الرغم من كون القضية الفلسطينية نتاج “الحداثة الرأسمالية” التي جاءت بيهود العالم إلى وطن غير وطنهم، وهجَّرت بالمجازر وبالتواطؤ العربي أكثر من نصف الفلسطينيين، وأقامت دولة وظيفية مهمتها ضبط مسارات السياسة والاقتصاد في مركز العالم القديم لمصلحة هذه “الحداثة الرأسمالية”، ونكبة عفرين ليست بعيدة العهد لإعادة مهجريها وإخراج الاحتلال التركي منها.
لا شك في أن القلق يسيطر على قادة تجربة “الإدارة الذاتية”، فهم أمام واقع جيوسياسي مختلف، فما بعد ملحمة “طوفان الأقصى” يختلف عما قبلها، فهناك معادلات جديدة من جراء هزيمة الكيان الوظيفي، وهي هزيمة لنظام الهيمنة الغربي الناهب للعالم أو لنظام الحداثة الرأسمالية، وفقاً لمصطلح عبد الله أوجلان، قد تدفع الأميركيين إلى الخروج من سوريا والعراق خلال سنوات، بما يرفع مظلة ضمان استمرار تجربة “الإدارة الذاتية”، ويجعلها عرضةً لرياح التغيير القادمة.
لا تختلف المناطق التي تحتلها تركيا في الشمال السوري وتؤمن الحماية فيها للجماعات الإسلامية المتنوعة التي اعتمدت بتحركاتها العسكرية العنيفة على العصبية الطائفية كأساس للصراع الإقليمي والدولي في سوريا، لتأتي ملحمة “طوفان الأقصى” وتقوض هذا الأساس، ولتبرز أنَّ المسألة الطائفية هي مسألة وظيفية، وأن قضية فلسطين جمعت ما يُعتبر قوى سنية وشيعية، لتتجاوز ذلك، وتؤكد أنها أوسع من ذلك بكثير، وأنها قضية مركزية للعالم وصراعه مع نظام الهيمنة الغربي الناهب.
الإرباك والترقب يسيطران على الجماعات الإسلامية في المناطق المحتلة من جراء سقوط السردية الطائفية وتحول الموقف التركي بعد يقينه بهزيمة هذا الكيان وأن المنطقة مقبلة على تحولات عميقة ما بعد نهاية الملحمة، تُحدد فيها الأدوار الإقليمية وفقاً لقوة كل دولة، وتركيا لا تريد أن تكون من الخاسرين، وهي مجبرة الآن على حسم مواقفها المتأرجحة بين الشرق والغرب بعد بروز الدور الإيراني في انتصار الفلسطينيين. هذا التحول التركي سيلقي بظلاله على هذه الجماعات.
في المحصلة، فإن الترقب والانتظار يسيطران على المشهد السوري العام، فالجميع لا يستطيع التنبؤ بمستقبل مرحلة ما بعد الملحمة التي تحتاج لسنوات من الصراع السياسي بين القوى الإقليمية والدولية، استناداً إلى نتائج الهزيمة الكارثية على الغرب، وخصوصاً أن البنى السياسية السورية بشكل عام لا تمتلك قدرات تلقف الفرص الذهبية المقبلة وتحويلها إلى مشروع سياسي سوري جديد يختلف عن كلّ ما سبق، والأمر يتعلّق بالقدرة على ملء فجوة غياب الحامل الاجتماعي بصراع مع الزمن.